نشرت بجريدة "القدس العربي"
تاريخ 2/5/2016
اميركا
من دور المهيمن الى دور المنظِّم
د. عصام نعمان
شكا سيرغي لافروف اميركا الى العالم . قال ما معناه إن روسيا كانت اتفقت معها على فصل التنظيمات السورية "المعتدلة" التي تقاتل الجيش السوري عن تنظيميّ "داعش" و"جبهة النصرة" الإرهابيين بغية تركيز الجهود عليهما لدحرهما . اميركا اخلّت بالإتفاق. غضّت النظر عن قيام "جبهة النصرة" بإجتذاب التنظيمات "المعتدلة" الى صفها ونظّمت حشداً لافتاً لمحاولة انتزاع مدينة حلب عسكرياً وإلحاق إهانة ميدانية بالجيش السوري وبالناس عذابات لا توصف.
من حق لافروف ان يحمّل اميركا مسؤولية الإخلال بالإتفاق. صحيح ان تركيا هي مَن يسلّح "جبهة النصرة" ويوجّه تحركاتها الميدانية ، لكن انقرة عضو فاعل في حلف الاطلسي" الناتو" وما كانت لتفعل ما فعلت وتفعله من دون علم واشنطن ، وربما بموافقتها ايضاً . لماذا ؟
الأصحّ القول إن واشنطن تغضّ النظر عما تفعله تركيا (وغيرها من حلفاء اميركا الإقليميين) لأنها اضحت غير قادرة ، أقلّه غير راغبة ، في منع حلفائها من القيام بما يخدم مصالحهم الذاتية بالدرجة الاولى.
هذا لا يبريء ذمة واشنطن مما يقترفه حلفاؤها من اخطاء وخطايا. ذلك ان في مقدورها ، لو ارادت ، ان تلجم هؤلاء فلا يتجرأون ولا يتمادون . لكنها لم تفعل لسببين: الاول ، لأن مصالحها كما امنها القومي ما عادا مهددين بعدما استغنت عن نفط الشرق الاوسط بما توفَّر لها منه محلياً بكميات ضخمة. الثاني ، لأن دولاً اقليمية ثلاثاً ، ايران وتركيا واسرائيل ، اصبح لديها من القدرات الاقتصادية والعسكرية من جهة ومن المصالح والأغراض من جهة اخرى ما يمكّنها من السعي لتأكيدها بمعزل عن اميركا.
ثمة حقيقة ساطعة لا تستطيع اميركا نكرانها وإن كانت تجتهد لإحتوائها. إنها فقدانها دور المهيمن على علاقات القوى في المنطقة وتراجعها الى دور الناظم والمنظِّم لها. لم يعد في مقدورها السيطرة والإملاء كما في الماضي بل مجرد التنسيق والتوجيه والإرشاد. حتى دور الناظم والمنظِّم هذا لا تسري مفاعيله على ايران بالمطلق ولا حتى على اسرائيل في اكثر الاحيان.
ما مفاعيل هذه الحال الاميركية والاقليمية ؟ ثمة خمسة منها بارزة :
اولاها ، إطالة امد الصراعات الإقليمية وانعكاساتها على الصراعات الدولية . ذلك يزجّ عالم العرب والمسلمين في حال مخاضٍ سياسي واجتماعي طويل يصعب التكهن بما سينتهي اليه.
ثانيها ، إتاحة المجال لروسيا للمشاركة في صراعات المنطقة لخدمة مصالحها في وجه الولايات المتحدة كما في وجه دول الاتحاد الاوروبي. ذلك يؤدي الى اعادة تأجيج الحرب الباردة من خلال حروب بالوكالة يشنّها اللاعبون الكبار مستخدمين بنجاح اللاعبين الصغار. ما يجري في سوريا والعراق واليمن وليبيا امثلةٌ حيّة على حروب بالوكالة شنتها الولايات المتحدة مع بعض حلفائها الإقليميين وأحسنت روسيا اغتنامها لخدمة مصالحها ودعم حلفائها الإقليميين ايضاً. ذلك قد يؤدي الى تدمير اليمن وسوريا والعراق وليبيا بقصد ان يرث خصوم الغرب الأطلسي في المنطقة اشلاء دول مفككة ومدمرة ومنهارة .
ثالثها ، ممارسة الولايات المتحدة دورها كناظم ومنظِّم لعلاقات القوى في المنطقة من اجل إعادة رسم الخريطة السياسية لسايكس – بيكو عشيّة مئويته وغداتها على نحوٍ يساعد شريكها الإستراتيجي الأول اسرائيل على إحاطة كيانها بطوق من جمهوريات الموز القائمة على اساس قَبَلي او مذهبي او اثني وعاجزة ، تالياً ، عن الاتحاد لمواجهتها . في هذا السياق ، قد يظهر كيان اضافي للكرد في شمال شرق سوريا يُراد له ان يبقى تحت هيمنة تركيا الى جانب كيان كردستان العراق المراد له ان يبقى تحت هيمنة اميركا. أليس نشر قوة خاصة اميركية اخيراً في محافظة الحسكة السورية وقبلها قوة مماثلة في محافظة الأنبار العراقية دليلاً ناطقاً في هذا الإتجاه ؟
رابعها ، صعود قوى المقاومة العربية في المشرق كما في المغرب بدعم من ايران ما يؤدي الى ازدياد فعالية محور الممانعة ، وتوسيع دوائر نفوذه ، وتعزيز دور القوى المنظَّمة ، ولاسيما الجيوش ، في الحياة العربية ، وتنمية ثقافة مغايرة ، عروبية – إسلامية ، منفتحة ومناهضة للإسلام السلفي التكفيري ، وانتعاش ثقافة مقاومة الصهيونية وكيانها العنصري ، وعودة مصر تدريجاً الى الإضطلاع بدور فاعل ، مشرقي وإقليمي.
خامسها ، إنتقال العالم من نظام عالمي (وثقافة) تلعب الدولة ، ولاسيما الدول الكبرى، دوراً رئيساً فيه الى نظام آخر متعدد الأقطاب والولاءات بثقافات متعددة يلعب فيه الأفراد والجماعات والكيانات غير الدولتية ادواراً متزايدة التأثير وذلك بفضل ثورة المعلوماتية والتقدم الخيالي لتكنولوجيا الإتصال والتواصل والأنشطة الإفتراضية Virtual.
ليست المفاعيل والظاهرات سابقة الذكر واجبة التحقق بالضرورة. بالعكس ، إنها مجرد إحتمالات تحتمل التحقق بصيغ مختلفة ، وقد لا تتحقق البتة . ذلك ان عالمنا في حاضره كما في قابل ايامه يتسم بظاهرة فريدة غير مسبوقة عنوانها إستقواء الإنسان–الفرد وتعاظم فعاليته بفضل الثورة المعرفية وتكنولوجيا الإتصال والتواصل ودورها في تفجير قدرات الفرد الكامنة وتظهيرها وتمكينه ، تالياً ، من التصرف بها على نحوٍ لا يمكن التحوّط له مسبقاً.
ما نحن فيه ومقبلون على اختبار المزيد منه هو عالم جديد طريف يضجّ بأفكار وثقافات ومصالح وتوجهات وارادات مليونية يصعب حصرها وضبطها وتقنينها واحتكار استخدامها والإفادة منها.
ماذا سيبقى لنا في معمعة هذا المعترك الحياتي المتأجج ؟ إنه مجرد التمنيّ (ممن؟) بأن تكون لنا الحرية والحكمة في الإختبار والإختيار والقرار والتصرف على نحوٍ يحقق المنفعة والبهجة والرحمة ويُبعد النقمة والإنتقام...