نشرت بجريدة"البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 11/4/2016
مركزية سوريا في العلاقات العربية- الإيرانية
د. عصام نعمان
بعد إنبرام الإتفاق النووي بين الدول الست الكبرى وايران ، واحتدام الصراع في سوريا وعليها ، واتضاح دور كلٍ من تركيا وايران في صراعات دول غرب آسيا، نظّم مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت مؤخراً حلقتيّ مناقشة ، الاولى حول العلاقات العربية - التركية ، والثانية حول العلاقات العربية – الإيرانية.
لم تتسنَّ لي المشاركة في الحلقة الاولى لأسباب خاصة ، لكنني شاركتُ في الحلقة الثانية التي قدّم خلالها الدكتور طلال عتريسي ورقة البحث وشارك في مناقشتها المستفيضة باحثون وخبراء إستراتيجيون من لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والخليج وايران ، وادارها الدكتور زياد حافظ.
شدّدتُ في مداخلتي ، عشيةَ استئناف محادثات جنيف -3، على مركزية سوريا في العلاقات العربية-الإيرانية. قلتُ إن سوريا تشكّل ، سياسياً وجيوسياسياً وامنياً ، قاسماً مشتركاً بين قضايا مركزية ساخنة تعصفُ حركيتها بدول الإقليم من شواطىء المتوسط غرباً الى جبال افغانستان شرقاً ، وتتأثر بتداعياتها وبما تنطوي عليه من تحديات دولُ العرب وايران وتركيا واسرائيل، فضلاً عن دول اوروبا واميركا.
يمكن إجمال القضايا المركزية الساخنة بخمس: قضية فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي، وقضية الإرهاب الإسلاموي التكفيري ، وقضية الكرد في تركيا والعراق وايران وسوريا ، وقضية الموارد الطبيعية ولاسيما النفط والغاز ، وقضية الولايات المتحدة ودورها الناظم والمهيمن في العلاقات بين دول الاقليم .
اولاً: سوريا وفلسطين
لسوريا موقع استراتيجي في قلب الصراع العربي- الإسرائيلي . فقد مثّلت فلسطين وما زالت قضية قومية مركزية في ثقافة سوريا ، شعباً وحكماً ، على مرّ تاريخها المعاصر ، كما مثّلت قضيةً قُطرية لها اولوية بارزة في مختلف عهودها. ذلك ان نخبتها السياسية والثقافية ، كما جمهورها الوطني المستنير ، فسّر دائما اتفاق سايكس-بيكو بين بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الاولى بأنه مؤامرة متمادية لتقسيم بلاد الشام وبلاد الرافدين بما هي سوراقيا ( سوريا والعراق مجتمعين ) وان الهدف القومي الاول للقوى الحية في هذه الديار هو مقاومة الاستعمار وربيبته اسرائيل للخروج من حال التقسيم الى رحاب التوحيد. كما مثّلت فلسطين وسوريا لإيران حاجة إستراتيجية كما سيتضح لاحقاً .
ثانياً : سوريا وقضية الكرد
في سعيها الى اعادة ترتيب اوضاع المنطقة ، اعطت بريطانيا وفرنسا في معاهدة سيفر العام 1920 الكرد حقاً في دولة تداخلت رقعتها بالضرورة مع ما كانت عليه تركيا المهزومة في الحرب العالمية الاولى ومع ما يصبو اليه الارمن من دولة مستقلة. الى ذلك ، تقع سوريا في نقطة جغرافية وسطى تقريباً بين مناطق تواجد الكرد في تركيا والعراق وايران . فكان لا بد من ان يكون للكرد السوريين وغيرهم دور في الصراعات التي اندلعت مع الحكومات القائمة في مختلف مناطق وجودهم.
ثالثاً : سوريا والإرهاب
باشر الإرهاب بصيغته الاولى ، اي "القاعدة" ، ضرباته في انحاء مختلفة من العالم ، لكن ضربته الاولى المدوّية كانت في الولايات المتحدة (ضربة 11 سبتمبر 2001). أما الإرهاب في صيغته الثانية ، اي"الدولة الإسلامية – داعش" ، فقد افتتح هجومه القوي الشامل في سوريا ، ومن ثم في العراق ، وهو يحتل فيهما حالياً مساحات شاسعة ، ويتخذ من مدينة الرقة السورية عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية .
رابعاً: سوريا وقضية الموارد الطبيعية (النفط والغاز)
في باطن سوريا وبحرها ثروة نفطية وغازية هائلة. لكن ، في موازاة مواردها الطبيعية الثرّة ، ثمة حقيقية استراتيجية لا تقل عنها ثراء واهمية هي كون سوريا ممراً اجبارياً لخطوط النفط والغاز الممتدة من السعودية والخليج ، كما من العراق (وربما لاحقاً من ايران ايضاً) الى شواطيء المتوسط والى تركيا ومنها الى اوروبا . هذه الحقيقة الإستراتيجية تبدو مغيّبة في الوقت الحاضر بسبب احتدام الصراع داخل سوريا وعليها.
خامساً: سوريا ودور اميركا كناظم لصراع اللاعبين الاقليميين
في كل الصراعات الناجمة عن القضايا والتحديات سالفة الذكر ، ثمة دور محوري تلعبه الولايات المتحدة كقوة ناظمة من جهة ، وكقوة مهيمنة من جهة اخرى. نتيجةَ ذلك تبقى سوريا ، بموقعها الجغرافي الوسطي والإستراتيجي ، ساحة دائمة لصراعات اللاعبين الاقليميين ولتدخلات الولايات المتحدة كناظم لعلاقات القوة بينها وكلاعب رئيسي مهيمن يسعى الى حماية مصالحه وحماية امن اسرائيل ايضاً.
ازدادت مركزية سوريا ودورها في الصراعات الاقليمية المحتدمة بعد توقيع الاتفاق النووي وعودة ايران ، المتحررة من الحصار والعقوبات الإقتصادية والمستردة لاموالها المجمدة ، الى لعب دور اكبر والتطلع الى ممارسة نفوذ اوسع في دول الاقليم. وتتبدّى اهمية سوريا في هذا المجال نتيجةَ علاقة ايران الحميمة ، كما روسيا، بالقضايا الخمس سابقة الذكر ومركزية موقع سوريا ودورها في الصراعات الناجمة عنها ، ولا سيما ما يتعلّق منها بقضيتي الصراع العربي - الإسرائيلي والإرهاب.
ايران معنية بقضية فلسطين لإعتبارات ايديولوجية ، دينية بالدرجة الاولى، كما لإعتبارات سياسية. ازدادت حاجة ايران الى سوريا ودورها كحليفة بعد نشؤ وتعاظم ثلاثة تحديات بالغة الخطورة : ردة فعل اسرائيل السلبية على الإتفاق النووي ، وتعاظم تهديد الإرهاب الإسلاموي التكفيري للدول الإسلامية قاطبة ، ولاسيما ايران ، ومستقبل اصطفاف القوى داخل عالم الإسلام السنّي .
التحدي الاول ، المشترك ، هو تحسّبُ ايران لآثار ردة فعل اسرائيل على الإتفاق النووي . فإسرائيل تخشى الإتفاق لأنه ترك ايران في وضع يسمح لها ، في ظنها ، بأن تصنع سلاحاً نووياً يهدد امنها القومي ويلغي تفوّقها الإستراتيجي على كل دول الإقليم. ولأن قلق اسرائيل- المبرّر او المفتعل- قد يدفعها الى تسديد ضربة صاروخية شديدة مدمّرة لإيران ، فقد قررت طهران بناء رادع صاروخي باليستي ليشكّل بقوته النارية الهائلة ، معادلاً استراتيجياً فاعلاً لذراع اسرائيل النووية. الأهم من ذلك، ترى ايران ان فعالية سلاحها الصاروخي الباليستي تكون مضمونة بتوفير قواعد انطلاق لها من مكان قريب من اسرائيل . من هنا تنبع اهمية سوريا في استراتيجية ايران الردعية. ذلك ان وحدة موقف البلدين في عدائهما لإسرائيل تتيح لإيران في رحاب سوريا تشغيل قواعد صاروخية ردعية قريبة وفاعلة ضد العدو المشترك.
التحدي الثاني ، المشترك ، هو الإرهاب التكفيري الذي يهدد البلدين في عمق نسيجهما الاجتماعي الداخلي. فهما مجتمعان تعدديان ينطويان على جملة اديان ومذاهب ومشارب واثنيات . فالإرهاب بلجوئه الى العنف الاعمى في نهجه القتالي يهـــــدد كـــل بلدان المنطقــة ذات التركيبة التعدديــة. واذا ما تمكّن تنظيــم "الدولة الإسلامية -داعش" من التجذّر في سوريا والعراق فإنه يصبح قريباً من ايران وبالتالي من روسيا ويهدد وحدتهما السياسية وعلاقاتهما مع الدول المجاورة. كما ان سعي قوى الإسلام السلفي الممالئة لـِ"داعش" الى التماهي والتعاون معه في مسارٍ متمادٍ للسيطرة على عالم الإسلام يؤدي الى تغليب الفكر الداعشي بين اهل السنّة والجماعة الذين يشكّلون الغالبية في سوريا كما جسماً محسوساً في ايران ، ولاسيما بين الاقليات العربية والكردية والبالوتشية. ذلك كله يستثير روسيا ويستجرّها الى ممارسة دور ردعي مساند لسوريا وايران في الإقليم .
التحدي الثالث، المشترك، هو تحسّب ايران كما سوريا لإحتمال ان يؤدي تطور الاحداث في بلاد الشام وبلاد الرافدين واليمن وتركيا وفلسطين المحتلة الى توليف اصطفاف سياسي وامني جديد في عالم العرب يضم مصر والسعودية وبعض دول الخليج ما يحدّ من نفوذ ايران، كما يحدّ من فعالية محور الممانعة والمقاومة المؤلف من ايران – سوريا –قوى المقاومة العربية (حزب الله وتنظيميّ الجهاد الإسلامي و"حماس") في سياق مواجهتها للولايات المتحدة واسرائيل في الاقليم.