نشرت بجريدة "القدس العربي"و|البناء"
تاريخ 14/3/2016
العلمانية ليست ديناً...
فلماذا لا نعتمد مصطلح العدلانية ؟
د. عصام نعمان
يرى البعض اننا استعدنا في حاضرنا ما كنا عليه في جاهليتنا. ارى اننا لم نغادر الجاهلية حتى نعود اليها. الجاهلية ما زالت ثاوية في أعماق نسجينا وتفكيرنا وتطفو الى سطح تصرفاتنا بدرجات متفاوتة من الحضور والعنف. وما الجاهلية إلاّ الجهل والجهالة والكفر بالقيم الإنسانية واستعداء الاخر لمجرد انه آخر ، اي انه غيرنا ، والإنحدار في هذا المسار الى حدّ وأد البنات. لعلنا اليوم في حال ادنى من الجاهلية . نحن في حال الإنحطاط. ما الإنحطاط ؟
انه الإدمان على التراجع والإنحدار والعجز ، تالياً، عن النهوض والإرتقاء. طال زمن انحطاطنا حتى بات طريقة حياة. كيف الخروج من ليلنا الحالك الطويل ؟
ثمة اطروحات عدّة في هذا المجال لعل اقدمها واحدثها في آن دعوةٌ الى اعتماد العَلمانية.ما العَلمانية ؟
ثمة معانٍ ومسالك عدّة لها نادى بها دعاتها كما ندّد بها خصومها. لعل معناها الأكثر قبولاً هو مساواة الناس امام القانون. اما أسواها فهو الكفر والإلحاد والعداء للدين والمتدينين.
يتساوى غلاة المتدينين بغلاة العلمانيين. الأشد تطرفاً بين المتدينين يرفع شعار "الإسلام هو الحل". انه الحل في كل زمان ومكان ولأي مشكلة وفي اي امتحان . الأشد تطرفاً بين العَلمانيين يرى ان الله تعالى مفهوم غيبي، وان الدين افيون الشعوب ، وان الإنسان هو البداية والنهاية.
اذا كان ثمة خلاف واختلاف في ما هي العلمانية فإن ثمة حاجة الى تبيان ما ليست هي أصلاً ، ذلك ان الإنسان عدو ما يجهل. الامر نفسه ينطبق على الإسلام. ثمة حاجة الى تبيان ما ليس الإسلام في مبناه ومعناه تفادياً لإنسياقٍ مؤذٍ وراء تفسيرات واجتهادات ما انزل الله بها من سلطان.
المخرج من حال الإنحطاط يكون بإبتداع برنامج للنهوض والبناء مستمد من حاجاتنا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ، ومستفيد من كل ما هو نافع ومجدٍّ من العقائد والنظريات والتجارب والإختبارات ، قديماً وحديثاً. هذه المقاربة تتضمن ، بالضرورة ، الإفادة من الإسلام وسائر الأديان، كما من النظريات السياسية والإقتصادية المتعددة ، ومنها العَلمانية .
لنبدأ في تبيان ما ليست العَلمانية اصلاً. فالمصطلح هو ، اولاً ، هو العَلمانية بفتح العين ، وليس بكسرها. هي تنطلق من العالم ، اي مما هو كائن ، موجود، ومحسوس وليس من الغيب والخيال والوهم. ولأنها من العالم فهي منفتحة على العِلم وطرائقه ومكتشفاته وتطبيقاته. وهي، ثانياً ، ليست ديناً. فالدين يحتّم وجود معبود (هو الله عند المتديّنين) في حين ان العَلمانية غير معنية بما هو وراء او اعلى من العالم الموجود والمحسوس .
ان تكون العَلمانية نظرية وليست ديناً لا يعني ان العَلماني لا دين له ، او انه ليس متديناً ، او انه ملحد بالضرورة . بالعكس، بإمكان العَلماني ان يكون ما يشاء ، بل ان يكون متديناً يعبد الله، ويُجلّ انبياءه ويقتدي بسيرتهم ، ويمارس شعائر الدين الذي يعتنقه على اتمّ ما يكون.
صحيح ان هناك عَلمانيين غير متدينين وحتى ملحدين ، لكن هناك ايضاً ملحدين غير عَلمانيين . الايمان بالله او عدم الإيمان به مسألة لا تعني العَلمانية والعَلمانيين. ما يعنيهم ، بالدرجة الاولى ، علاقات الناس فيما بينهم ، وعلاقتهم بالدولة ومؤسساتها، ومقاربتهم للسياسة وقضاياها وشؤونها ، كل ذلك في مساواةٍ امام القانون .
إكتسبت العَلمانية في عالم العرب صفة الإلحاد لأن منشأها اوروبي، ودعاتها الأوَل تأثروا عموماً بثقافة الغرب. ولأن دول الغرب كانت ، وبعضها ما زال ، دولاً مستعمِرة والمستعمِر مستبد وشرير ومعادٍ للقيم الدينية، فقد اضفى العداء للغرب صفةَ الإلحاد على العَلمانية والعَلمانيين.
ليس من شك في ان الإسلاميين على حق في رفضهم التغرّب والتقليد الأعمى للغرب . غير ان رفض التغّرب ليس وقفاً على الإسلاميين بل هو موقف ينهض به المثقفون وأهل الرأي والمناضلون السياسيون المنتمون الى شتى المدارس والتيارات والإيديولوجيات القومية واليسارية والتقدمية الحريصة على الأصالة ، من حيث هي الجوانب الحية في التراث ، حرصهـا على المعاصرة بما هي الجوانب الخيرّة في الحداثة .
رغم إلتقاء الإسلاميين والتقدميين في موقف معاداة التغرّب فإن معظم الإسلاميين يلجأ الى التحامل على "العَلمانيين" بوضعهم جميعاً في سلة واحدة من حيث إتهامهم بأنهم مجرد مقلدّين للتجربة الأوروبية ، الفرنسية خاصة، هذه التجربة التي إنطوت على الفصل بين الكنيسة والدولة في حين لا كنيسة في الإسلام ولا ضرورة لاستحداث تقليد الفصل بين المسجد والسياسة في مجتمعاتنا الإسلامية المغايرة في ظروفها لمجتمعات أوروبا المسيحية.
الحق أن هناك فروقاً عميقة بين "العَلمانية" العربية ( مع تحفظي على استعمال هذا المصطلح) والعَلمانية الأوروبية وبالتالي بين "العَلمانيين" العرب والأوروبيين. ولعل هذه الفروق تظهر اكثر ما يكون عند تبيان ما يمكن تسميته المرتكزات الأساسية للعلمانية العربية على النحو الآتي:
* حرية الإعتقاد عملاً بالآيات الكريمة : " لا إكراه في الدين" ( سورة البقـرة ، الآية رقم 256). " لست عليهم بمصيطر " ( سورة الغاشية ، الآية رقم 22) . " انـك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " (سورة القصص ، الآية رقم 56 ).
* قدرة العقل الإنساني على اجتراح حلول لمشكلات الإنسان والمجتمع سواء باقتباسها من النص الإلهي ، اي الشريعة ، او بتبنّيه واتّباعه قيما ومسالك مكتسبة من تجارب الحياة الإنسانية وظواهرها الطبيعية والاجتماعية.
* المساواة بين البشر والتكافؤ في الفرص بصرف النظر عن الجنس والأصل والدين واللون والمنزلة الاجتماعية.
* حياد الدولة إزاء مؤسسات الأديان والمذاهب.
* الشورى والديمقراطية هما السبيل الأفضل لحكم المجتمع وتطويره ، ويقومان على حرية التعبـير، وتعددية الرأي ، وحكم القانون ، والاحتكام الى الأغلبية في إطار من التوافق الوطني.
* وضع قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يراعي القواعد والأعراف الأساسية في الإسلام والمسيحية .
* إيلاء النظر في قضايا الأحوال الشخصية إلى المحاكم المدنية على ان تكون مؤلفة من قضاة مختصين بالشرع .
* التسامح من حيث هو طريق التراحم ( "رحمة الأمة في إختلاف الأئمة " ) والحوار والتفاعل والتصويب والتطوير.
إن خصائص "العَلمانية" العربية ، كما حددناها آنفاً، تختلف إختلافاً واضحاً عن خصائص العَلمانية الأوروبية . بل إن هذه الخصائص البارزة للعلمانية العربية ذات السياق التاريخي والاجتماعي المختلف تضعها في صلب روح الإسلام العظيم وقيمه ومُثله وممارسة الأخيار من خلفائه وعلمائه وحكمائه . ففي ضوء ذلك قال العلامة الشيخ عبد الله العلايلي: " الإسلام دين علماني" .
لعله آن الآوان ليعلن " العَلمانيون" العرب تمايزهم عن العلمانية الأوروبية واستقلالهم الذاتي عنها بسياق تاريخي خاص بهم وذلك بشتى وسائل التفكير والتدبير والبحث والممارسة . ولعله أيضا بات من الضروري إبدال مصطلح العَلمانية ذي المضمون الأوروبي المغاير بمصطلح جديد يحمل الخصوصية التاريخية والاجتماعية لمضمونها العربي المتكامـل مع روح الأديان جميعـا - لاسيما الإسلام - والمتكامل مع الإيمان الديني عموماً. وإني أقترح ، في هذا المجال ، تعبير العدلانية (او العدلنة) المشتقة من العـدل ، وهـي كلمـة تحمل ، في المعجم ، جملة معاني تؤدي المضمون الأفضل والمطلوب : ضد الظلم والجور ، السويّة ، النظير والمثل ، القيمة.
هذه المفردات تحمل معاني حرية الإعتقاد ، والمساواة ، والقيمة المتوخاة للإنسان من حيث هو روح وجسد وعقل.