سؤال الى العماد و السيّد :
ما العمل اذا تعذّر انتخاب الرئيس؟
د. عصام نعمان
ممهداً بدرسٍ في الأخلاق للسياسيين المنافقين ، اكد السيد حسن نصرالله في حديثه الأخير دعمه ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. قال إنه وحزب الله لن يتخليا عنه ما دام مرشحاً.
حسناً، لكن اذا تعذّر انتخاب عون بعد شهر ، شهرين او خمسة اشهر ، هل يبقى مرشحاً ؟ والى متى؟
هذا السؤال موجّه للعماد عون ، اولاً ، وللسيد نصرالله ، ثانياً ، اذ لا يجوز ان تبقى ازمة لبنان محتدمة ومفتوحة الى ابد الآبدين ، خصوصاً اذا تعذّر، ايضاً ، انتخاب مرشح آخر غير عون للرئاسة.
منذ عشرين شهراً تحاول القوى السياسية المتصارعة التوافق على شخصية سياسية مقبولة ليصار الى انتخابها، لكن دونما جدوى. لماذا ؟ لأن المشكلة ليست في العثور على الشخصية المناسبة بل في صعوبة الإتفاق على قانون الإنتخابات. فتوازن القوى الحالي في مجلس النواب مشفوعاً بمراعاة بعض التكتلات السياسية لقوى اقليمية لها عليها نفوذ وتأثير حال ويحول دون التوافق على قانونٍ ديمقراطي عادل .
مخارج متعددة اقتُرحت للخروج من الأزمة المستعصية. لعل اوزنها ما كان ادلى به قبل نحو شهرين السيد نصرالله : سلّة متكاملة من التدابير والإصلاحات ، اوّلها واهمها إقرار قانون جديد للإنتخابات على اساس التمثيل النسبي في دائرة وطنية واحدة.
ما السبيل الى ذلك ؟
الدعوة والمناشدة للتوافق على القانون المطلوب لا تكفيان. إن مراجعةً دقيقة متفحّصة لتاريخ لبنان السياسي المعاصر تكشف حقيقة ساطعة هي ان ما من اصلاح محسوس، ولو كان محدوداً ، طرأ على بنية النظام إلاّ وكان نتيجةَ عاملَين فاعلين : الشارع في الداخل ، واصطفاف سياسي متجاوب معه في الخارج.
في العام 1952 ، ما أمكن إزاحة الرئيس بشارة الخوري ، المتهم بتزوير الإنتخابات لتأمين غالبية نيابية لتعديل الدستور وتجديد ولايته ، إلاّ بعد اندلاع تظاهرات واضرابات في البلاد ورفْض قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب التدخل لقمعها . هذه الأحداث رافقها رضى ضمني من بريطانيا والولايات المتحدة اللتين كانتا ترغبان في إزاحة الخوري المعارض لحلف بغداد الذي كان قيد الإعداد.
في العام1958، ما أمكن تعطيل مشروع الرئيس كميل شمعون ، الحائز على غالبية نيابية لتعديل الدستور وتجديد ولايته ، إلاّ بعد اندلاع انتفاضة شعبية في قضاءي الشوف وعاليه مترافقةً مع تظاهرات مؤيدة في مدن الساحل ، متعاطفة مع اعلان وحدة مصر وسوريا ومعارضة لسياسة شمعون المنحازة لحلف بغداد و"مبدأ ايزنهاور".
في العام 1988 ، انتهت ولاية الرئيس امين الجميل في غمرة اضطرابات امنية وخلافات سياسية ساخنة تعذّر معها إنتخاب رئيس بديل . غير ان حدثاً داخلياً جللاً وقع مكّن الولايات المتحدة وسوريا والسعودية من الإتفاق على دعوة الأطراف اللبنانية المتصارعة الى مؤتمر الطائف العام 1989 للتوافق على وثيقةٍ للإصلاح السياسي . فقد انفجرت الخلافات حرباً بين أنصار قائد الجيش العماد ميشال عون وتنظيم "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع الامر الذي اضعف الصف المسيحي وسهّل تالياً مشاركة الاطراف المسيحية المستقلة عن عون وجعجع في مؤتمر الطائف .
في العام 2014 وخلافاً لما وقع من احداث في 1952 و 1958 و1988 ، لم تتمكن القوى السياسية المتصارعة في الداخل من ان تحسم الصراع لمصلحة ايٍّ منها او ان تتوصل فيما بينها الى انتخاب شخصية توافقية للرئاسة . كما عجزت القوى الخارجية عن الإتفاق فيما بينها على توليف تسوية لإخراج لبنان من ازمته ، فكان ان استمرت الازمة وتفاقمت على النحو الذي نعانيه الآن .
ما العمل ؟
لا سبيل ، على ما يبدو ، لحدوث إصطفاف قوى اقليمي قريب يساعد ايّاً من الأطراف المتنازعين على تسوية الأزمة . كما لا يبدو ان القوتين السياسيتين الرئيسيتين القادرتين على تحريك الشارع ، وهما "التيار الوطني الحر" (عون) وحزب الله (نصرالله ) ، تهيئان لإعتماد هذا الخيار في المستقبل القريب . فالعماد عون مازال يراهن ، بعد تحالفه مع جعجع ، على الوصول الى الرئاسة عبر مجلس النواب. وحزب الله يحاذر ايضاً النزول الى الشارع لإنشغاله بمتطلبات المقاومة ، بالدرجة الاولى ، سواء لمواجهة العدو التكفيري في سوريا او العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة .
هل من تغيير في موقف الحزب بعد الحديث الاخير للسيد نصرالله ؟
لعل قائد المقاومة يراهن على انتصار سوريا في حربها على اعدائها التكفيريين خلال سنة على الاكثر ما ينعكس إيجاباً على لبنان ويعجّل في انتخاب عون رئيساً. لكن ، هل يستطيع لبنان تحمّل مفاعيل الأزمة الخانقة عشرة أشهر اضافية ؟ ألا يجدر بالعماد عون اختصار المحنة ومآسيها بدعوة انصاره ومريديه للنزول الى الشارع والتلاقي مع جماعات الحراك الشعبي رافعاً مطلباً وحيداً: إقرار قانونٍ للإنتخابات على اساس التمثيل النسبي وإجراؤها بالسرعة الممكنة ؟ ألا يجدر بالسيد نصرالله وحزب الله المبادرة الى دعم مطلب التيار الوطني الحر والحراكات الشعبية وسائر القوى الحية ، بل الانخراط في حركة الشارع لتكبير كرة الثلج الشعبية المتعاظمة بغية اسقاط سلطة العجز ونظامها الفاسد؟
رغم مشروعية إسقاط سلطة العجز وضرورته الماثلة ، ثمة خيارٌ بديل ألطف وقعاً يمكن اعتماده إذا قدّم أهل السلطة الحكمةَ والمصلحة الوطنية على المكابرة والمصالح الشخصية. إنه خيار إقرارٍ معجّل التنفيذ لمشروع قانون الانتخابات على أساس النسبية الذي احالته حكومة نجيب ميقاتي على مجلس النواب منذ اكثر من ثلاث سنوات. بذلك تجري الانتخابات بالسرعة الممكنة ، فيقوم برلمان جديد ، ينتخب رئيس الجمهورية الجديد ، وتنبثق منه حكومة جديدة قادرة على اتخاذ قرارات وإجراء إصلاحات وتعيينات مستحقة واستثنائية.
إذا رفضت الشبكة الحاكمة إجراء الانتخابات لأي سبب من الأسباب ، يكون الشعب وقواه الوطنية والاجتماعية الحية في حلٍّ من احترام سلطةٍ عاجزة وممنعة في إلتزام سياسة التأجيل والتسويف والتمديد ومخالفة الدستور والقانون ، ويكون إسقاطها بالتمرد والعصيان مشروعاً ومتوافقاً مع روح الدستور وأحكامه الأساسية ، كما يكون بمأمن من تدخلاتٍ ميدانية للقوى الخارجية كونها منشغلة بمشاكلها وحروبها على مستوى المنطقة برمتها.
مع إسقاط سلطة العجز يعلن صانعو الحدث قيام مؤتمر وطني للحوار والقرار يكون مؤلفاً ممن يرغب من اعضاء البرلمان وأغلبية وازنة من ممثلي القوى الحية لمختلف الشرائح الاجتماعية في البلاد.
في ظروفٍ استثنائية كهذه التي نعيشها، لا بد من اتخاذ تدابير استثنائية . لذلك يقرّ المؤتمر الوطني نظاماً ديمقراطياً للإنتخابات على أساس التمثيل النسبي في دائرة وطنية واحدة وذلك تطبيقاً لروح المادة 27 من الدستور ، ويعيّن هيئة تنفيذية انتقالية لإجراء انتخابات عامة ينبثق منها برلمان جديد ذو طابع تأسيسي وحكومة وطنية جامعة تكون اولويتها تطبيق أحكام الدستور ولا سيما المادة 22 منه التي تقضي بأنه "مع انتخاب اول مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية "، وتطبيق المادة 95 التي تقضي باتخاذ الإجراءات الملائمة لإلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية .
بعد كل ما جرى ويجري من انحرافات وارتكابات وسرقات ومفاسد واستبداد وانتهاكات للحريات وحقوق الإنسان ، لا يجوز ان نستمر في معالجة أزماتنا المزمنة المتناسلة بمزيد من التسويات والمحاصصات والصفقات الشائنة.
آن اوان تحطيم اغلال الطائفية البغيضة وهدم ترتيبات المحاصصة والزبائنية بلا هوادة ، وتشييد ركائز الدولة المدنية الديمقراطية بإرادة حرة وصبرٍ وتصميم ، مرةً والى الأبد.