نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 18/1/2016
اوباما يعترف:
اميركا الاقوى في العالم يليها... الإرهاب ؟
د. عصام نعمان
على غير عادته بدا باراك اوباما منتشياً ، فخوراً بنفسه ، متباهياً في خطاب "حال الإتحاد" امام الكونغرس منتصفَ الاسبوع الماضي. ثمة سبب ، ودافع ، للنشوة غير العادية.
السبب هو ان الولايات المتحدة ، في رأي الرئيس الاميركي الرابع والاربعين الذي تنتهي ولايته اواخرَ هذه السنة ، هي "الدولة الأقوى على سطح الأرض ولا يوجد ثانٍ قريب منها (...) لأن قواتنا افضل قوات محاربة في تاريخ العالم ، ولم تجرؤ دولة اخرى على مهاجمتنا مباشرةً ، او هاجمت حلفاءنا ، لأنها تدرك ان هذا المسار للدمار".
الدافع هو ان الإنتخابات الرئاسية باتت على الأبواب ، والجمهوريون يجهادون ويؤمّلون بالسيطرة على اعلى وأنفذ منصب في اميركا والعالم بعدما سيطروا ، طيلة سنيّ ولايته ، على مجلسيّ النواب والشيوخ ، فلا بد من بذل جهد استثنائي لمواجهة هذا التحدي نصرةً للمرشحين الديمقراطيين. وهل من سبيل للمواجهة افضل من ابراز مواطن القوة والإقتدار في البلاد والنجاحات الكبرى التي حققتها بفضل ادارته الديمقراطية سحابةَ سنواته الثماني في سدة الرئاسة ؟
شواهد متعددة قدّمها اوباما للتدليل على قوة اميركا واقتدارها. قال :
- "نحن نُنفق على جيشنا اكثر من الدول الثماني التي تعقبنا ".
- "لم تجرؤ دولة على مهاجمتنا مباشرةً ."
- "استطلاعات الرأي تُظهر أن مكانتنا في العالم اقوى من اي وقت مضى".
- "الناس لا يتطلعون الى بكين او موسكو لقيادتهم بل الينا ".
مع ذلك ، اقرّ اوباما في معرض حديثه عن المتغيرات الدولية ، بأن "هناك انتقالاً (يعني صعوداً) اقتصادياً كبيراً للصين ، وبرغم الإنكماش الاقتصادي نجد ان روسيا تصبّ مواردها في اوكرانيا وسوريا.(...) والنظام الدولي يحاول التماشي مع هذه الحقيقة الجديدة ، لكن الامر يعود الينا في صناعة هذا النظام ، وللقيام بذلك جيداً علينا ان نحدد الاولويات".
كيف رتّب اوباما اولوياته ؟
قال : "الاولوية الاولى تتمثل في حماية الشعب الاميركي وملاحقة الشبكات الإرهابية".لماذا؟ لأن تنظيمي "القاعدة" و"داعش" يشكّلان "تهديداً مباشراً لشعبنا (...) إذ يمكن لحفنة من الإرهابيين ممن لا يقدّرون الحياة البشرية ، بما في ذلك حياتهم ، ان يُلحقوا اضراراً كبيرة. وهؤلاء يستخدمون الانترنت لتسميم عقول الافراد داخل بلادنا. وهذا يقوّض حلفاءنا ، وبالتالي فإن علينا إجتثاثهم".
هكذا اعترف اوباما ، مداورةً ، بأن الإرهاب هو الطرف الأقوى في العالم بعد اميركا . ولتفادي إحداث هلع بين الاميركيين وفي العالم ، سارع اوباما الى التحذير من "ان الحديث عن حرب عالمية ثالثة (يلّوح بها بعض المترشحين للرئاسة) يخدم دعاية الإرهابيين (...) لأن هؤلاء يشكّلون خطراً كبيراً على المدنيين ، لكنهم لا يشكّلون خطراً على وجودنا القومي(...) او ان "داعش" يمثل واحدة من اكبر الديانات في العالم ".
صحيح ان "داعش" لا يمثل واحدة من اكبر الديانات في العالم بل لا يمثل إلاّ شطراً محدوداً من الحضور الملياري للإسلام في المعمورة ، لكن ليس صحيحاً على الإطلاق توصيف اوباما للإرهابيين بأنهم مجرد "حفنة". كيف يكونون "حفنة" وقد باتوا ، بإعتراف الرئيس الاميركي نفسه ، يشكّلون "تهديداً مباشراً لشعبنا"؟
كيف يكون الإرهابيون حفنة وقد انتشروا افراداً وجماعات في اربع جهات الارض ، ولاسيما في عالم الإسلام ، يقتلون ويدمرون ويشرّدون ويهددون وحدة دول عدّة بالتقسيم والتفتيت ؟ أليس هذا ما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال ونيجريا بصورة مباشرة ومكلفة بشرياً ومادياً وسياسياً ، ويحدث في مصر وتونس ولبنان وتركيا وباكستان واندونيسيا وبوركينا فاسو بصورة اقل عنفاً وانما بتداعيات سياسية متواترة ؟
الى ذلك ، هل يجهل اوباما ام انه يتجاهل قدرات هذه "الحفنة" مـن الإرهابيين، ولاسيما على الصعيد التكنولوجي، إذ اصبح في وسع تنظيم "داعش" ، مثلاً ، إجراء تجارب على تطوير صواريخ واجهزة قيادة ذاتية للسيارات المفخخة ، وكسْر انظمة الحماية في اوروبا وارسال المفخخات الى اي مكان او هدف يشاء ؟
اذا كان حقاً يجهل ذلك فما عليه إلاّ ان يأمر وكالة الإستخبارات المركزية C.I.A. التي تحيط تماماً بكل هذه الظاهرات والقدرات بأن توفّر له التقرير الذي عرضته شبكة "سكاي نيوز" البريطانية بعنوان "داخل مختبرات اسلحة الإرهاب" عن قدرات "داعش" العسكرية تضمّن تسجيلات مسرّبة من مختبرات التنظيم في محافظة الرقة السورية ما اثار دهشة "سكاي نيوز" (وغيرها من ووسائل الإعلام في الغرب ) من قدرات "داعش"، كما دهشة الخبراء الذين استعانت بهم لتقويم هذه الظاهرة.
المفارقة اللافتة في كل هذه المكتشفات والمعلومات ليس ، بطبيعة الحال، "جهل" اوباما وغيره من قادة الدول الكبرى والاقليمية بل تجاهلهم لها متعمّدين بإعتمادهم سياسات مزدوجة تجاه دول تعاني من حروب "داعش" فيها وعليها، كسوريا والعراق ، والتمادي في مهادنة التنظيمات الإرهابية وحتى دعمها ظناً منهم ان نشاطها القتالي في الدول المعانية من الإرهاب يساعد دولاً كبرى واخرى اقليمية في ممارسة ضغوط عليها لإكراهها على الإمتثال لمخططاتها واغراضها السياسية والإقتصادية.
لا غلوّ في القول إنه يستحيل على اميركا ان تبقى الدولة الاقوى والاكثر اماناً في العالم اذا ما بقي الإرهاب ، باعتراف اوباما مداورةً ، الطرف الذي يلي بلاده حيلةً واقتداراً بين سائر الدول والاطراف الناشطة في عالمنا المعاصر.
اجل ، ما لم تتوقف الولايات المتحدة وغيرها عن مهادنة التنظيمات الإرهابية، بل الإستعانة بها احياناً ، والمباشرة في اجتثاثها كما توّعدها اوباما في خطاب "حال الإتحاد" ، فإن الإرهاب سيبقى الطرف الذي يليها حيلةً واقتداراً ومهابة .
... وكل ذلك على حساب الآخرين .