نشرت بجريدة"الخليج"
تاريخ 19/12/2015
الوطن يوّلد المواطنة والدولة تكوّن الوطن
د. عصام نعمان
دعاني "ملتقى الاديان والثقافات" في بيروت الى المشاركة في مؤتمر "المواطنة: واقع وتحديات" . قلتُ في مداخلتي ، بإختصار ، إن المواطنة مصطلحٌ حديث مشتقٌّ من المواطن. فهي، اذاً ، رابطةُ إنتماء المواطن ، اجتماعياً وسياسياً ، الى وطنٍ ، وارتباطه بعلاقات قانونية وسياسية بدولة قائمة في وطن. تساءلت : هل من وطن لبناني في التراث والتاريخ ؟
لعل لسان العرب للعلاّمة ابن منظور هو احدُ ابرز جذور علم الإجتماع العربي.
والوطن في لسان العرب هو "المنزلُ تقيم به ، وهو مَوطِنُ الإنسان ومحله ، والجمعُ اوطان. اوْطَنَه : اتخذه وَطَناً . اوطَنْتُ الارض ووَطّنْتُها توطِيناً واستوْطَنْتُها اي اتخذتها وَطَناً" .
لم يأتِ ذكر مفردة الوطن مقروناً بسلطة او بدولة. مدلوله ، اذاً ، اجتماعـي لا سياسـي. ليس غريباً، والحالة هذه ، ان لا ذكر لمفردة المواطنة في لسان العرب كونها مفهوماً حديثاً اقترن بنشأة الدولة الحديثة . ذلك ان حال البداوة امتدّت طويلاً في تاريخنا . ولأن البداوة تنطوي على الترحال والإنتقال ، فقد اصبح الإستقرار متعذراً ما ادّى الى تأخّر نشؤ مجتمع سياسي او دولة في مكان ثابت ، اي في وطن يكون محلاً ومسكناً لأفراد القبيلة او العشيرة او السكان، ما تسبّب بدوره بتأخير قيام علاقات سياسية لعدم وجود دولة بالمعنى المتعارف عليه .
وعليه ، ينهض سؤال : هل من ذكر للبنان في التاريخ ؟
يخلو التاريخ القديم والوسيط من أي ظاهرة لكيان لبناني واحد ، متميز و شامل الرقعة الجغرافية نفسها لإقليم "دولة لبنان الكبير" التي أنشأتها فرنسا سنة 1920. فهذه الرقعة الجغرافية لم تحتضن مجتمعاً واحداً له حياة مشتركة ، يمارسها في مؤسسات مشتركة ، ويتطلع إلى مصير مشترك في مواجهة تحديات مشتركة .
لغياب الكيان السياسي الواحد أسباب عدة أبرزها تميّز تركيبة لبنان السكانية بظاهرة تعدد الأديان والطوائف والمذاهب . هذا الإجتماع التعددي افرز كياناً سياسياً تميّز بأنه كان ثمرة تزاوج عوامل ثلاثة : النظام الملي العثماني ، والنظام الإقطاعي الفرنجي (الصليبي) ، والجغرافيا اللبنانية التي احتضنت طوائف وجماعات تأثرت بأحد هذين النظامين أو بكليهما .
النظام الملي العثماني كان ينطـوي علـى إعطاء أبناء الملة الواحدة – أي الطائفة غير المسلمة القاطنة في السلطنة – نوعاً من الحكم الذاتي في شؤونها الدينية والزمنية والثقافية يحظى بحماية خاصة من الدول الأجنبية . وكانت الهوية الدينية لرعايا ملة ما هي مصدر هويتهم الوطنية ، لدرجة ان كل ملة كانت تعتبر نفسها "أمة" قائمة بذاتها يتراسل زعيمها مع الدول الأجنبية بهذه الصفة وينظر إليها القناصل الأجانب من هذه الزاوية الواقعية .
لعل تجذّر الطائفية كعصبية وخاصية ثابتة في كيانات فئوية متمايزة يفسر، جزئيّاً، سبب إختيار دول أوروبا الاستعمارية للبنان نظام المتصرفية . ذلك ان نظامها كان في الواقع نوعاً من الاتحاد الكونفدرالي يجمع كيانات طائفية وإقطاعية ذات حكم ذاتي .
قيام الكيان اللبناني لم يكن ، اذاً ، نتيجة نضال لربط أوصال وطن مجزأ إذ لم يكن ثمة وطن بل كان سعياً حثيثاً من أجل توطيد النظام اللبناني بتمديده إلى الحدود التي تنتهي عندها خلفيته الاجتماعية والسياسية . بعبارة اخرى ، كانت حدود الكيان هي حدود النظام ذاته .
عزّز الفرنسيون خلال عهد الانتداب النظام القائم بمرتكزاته الأساسية بل سعوا إلى تكريس مضمونه الطوائفي الكونفدرالي بإعتماد الطائفية في التوظيف ، وفي انتخابات المجالس النيابية ، وفي توزيع مناصب السلطات العليا ، وفي تكريس الانفصال التام بين رعايا الجمهورية بإقرار نظم مختلفة لأحوالهم الشخصية ، وبالسعي إلى ضمان فوز الإقطاعيين وأتباعهم في الانتخابات العامة ، وبتنظيم خاص للدوائر الانتخابية ، وقمع لا هوادة فيه للحركات الوطنية والأحزاب العلمانية .
تكرّس ، تحت سلطة الإنتداب الفرنسي ، تلازمُ النظام والكيان بأن أصبح الأول قاعدةً للثاني على نحوٍ تنتهي حدودهما المشتركة عند تخوم الخلفية الإجتماعية والسياسية للأول . وفي ظل هذا التلازم جرى توليد استقلال الكيان سنة 1943 من خلال مسار سياسي لعبت فيه القوى الوطنية دوراً جزئياً إزاء دور أكبر لبريطانيا وفرنسا .
تفاعلت التطورات والخصائص المار ذكرها على نحوٍ أضحى النظام معها آلةً في خدمة شبكة حاكمة قابضة داخل الكيانات المذهبية وفي ما بينها تُشبه الإدارة الكونفدرالية ، مؤلفة من متزعمين في طوائف ، ورجال أعمال وبيوت أموال ، وآمري أجهزة أمنية واستخبارية . وقد ربطت هذه الشبكة القابضة بين مفهوم الكيان ومفهوم النظام بحيث أضحى النظام الطوائفي الكونفدرالي في عرفها وسلوكيتها بديلاً من الكيان، إن لم يكن هو " الوطن" ، أي القيمة العليا الجديرة بالإلتزام والحماية والتضحية.
في "وطن" هذه حالُه ، هل ثمة فرصة لنشؤ مواطن وتكوين مواطنة ؟
اذ غاب الوطن وحضر الكيان متلازماً مع النظام ، كان من الطبيعي ان تغيب الدولة قبل الوطن في الواقع كما في النصوص. فالدولة هي التي تنشىء الوطن وليس العكس. الدولة تقوم فيقوم معها الوطن ويترسّخ في الوجدان كما على الارض وفي النصوص.
ربما لهذا السبب غاب ذكر الوطن او كاد في أحكام الدستور. فقد ورد ذكره ثلاث مرات فقط. الاولى في مقدمة الدستور بقولها في الفقرة "أ" : "لبنان وطن سيّد حرّ مستقل". الثانية في المادة 49 بقولها إن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن". الثالثة في المادة 50 بمعرض يمين الإخلاص للأمة والدستور وحفظ "استقلال الوطن اللبناني وسلامة اراضيه".
عدم رسوخ مفهوم الوطن ادى الى غياب مفهوم المواطن. فالدستور خالٍ تماماً من ذكر المواطن . ذلك ان المواطن مشتق من الوطن ، وهو يستتبع رسوخ الوطن في دولة ينتمي اليها اجتماعياً وسياسياً ، وتكون له معها علاقات قانونية وولاء واخلاص.
غياب مفهوم المواطن استتبع غياب مفهوم المواطنة اذ لا اشارة البتة للمواطنة لا في مقدمة الدستور ولا في احكامه. الى ذلك ، لا مساواة للبنانيين امام القانون. فالتمييز قائم بينهم نتيجة اختلاف أنظمة الأحوال الشخصية ، والتصويت في الدوائر الإنتخابية ، وتوزيع المقاعد النيابية على الطوائف والمناطق ، والتعيين في الإدارات والمؤسسات العامة.
هل كان غياب كل هذه الحقوق والمفاهيم والعلاقات ليكون لولا غياب الدولة وغياب حكم القانون ؟
لا غلوّ في القول إن أزمة لبنان مردّها ، في الدرجة الأولى ، الى غياب الدولة . لا دولة عندنا بل مجرد نظام هو عبارة عن آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان الشبكة السياسية القابضة . هذه الشبكة القابضة العابرة للطوائف والجماعات هي، في الواقع وعلى مرّ العهود ، أشبه ما تكون بمدالية ذات وجهين متكاملين : موالاة للنظام الطوائفي الكونفدرالي متجسدة في فريق حاكم ، ومعارضة ظرفية للفريق الحاكم إنما مخلصة للنظام القائم في إطار توافقٍ مضطرب للتناوب على السلطة . مع هذه الثنائية السياسية وبفعلها تماهى النظام بالكيان وتكاملا حتى كـادا يصبحان صيرورةً واحدة .
في ظل هذه الشبكة السياسية القابضة تعذّر تحقيق حاجتين إستراتيجيتين : الإصلاح السياسي ومواجهة الخطـر الإسرائيلي . فالإصلاح ومكافحة الفساد متعذران في غياب معارضة حقيقية ومحاسبة صارمة للشبكة القابضة وللنظام الفاسد . ومواجهة الخطر الإسرائيلي مستحيلة بسبب عدم إقرار الشبكة القابضة بوجوده أصلاً . ذلك ان وعي الخطر يستتبع إتخاذ تدابير إصلاحية سياسية واقتصادية نوعية لمواجهته . لكن إتخاذ مثل هذه التدابير يؤذي الشبكة السياسية القابضة من حيث انه يؤدي الى إرتخاء قبضتها ولجم عملية إستلاب خيرات البلاد ، فكان ان تفادت الإقرار بوجود خطر اسرائيلي لتتفادى الإصلاح والمواجهة بما هما عمليتان تتمان على حساب مصالحها .
لو كان عندنا دولة بمفهومها الصحيح المتعارف عليه لكان تمّ بناء جيش قادر على مواجهة الخطر الإسرائيلي (ولاحقاً خطر الإرهاب التكفيري) . غياب الدولة إستتبع غياب الجيش القادر ، وهذا بـدوره إستتبع قيام مقاومة شعبية لسدّ نقصٍ فاجر. غير ان إنتصار المقاومة سنة 2000 ، وما يمكن ان يؤدي إليه الانتصار من تعديل لمصلحتها في موازين القوى الداخلية ، أخافا الشبكة القابضة وشدّا من عزيمة جناحها الاكثر تطرفاً للجم المقاومة وتفكيكها . في هذا السياق ، وإزاء عجز الشبكة القابضة عن تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1559 ، شنّت إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة حرباً (فاشلة) على المقاومة ولبنان صيفَ العام 2006.
بات واضحاً أن أي تسوية سياسية في ظل موازين القوى السائدة في الداخل ستكون تسويةً ظرفية قصيرة الأمد وتنطوي على "المزيد من الشيء نفسه" ، أي المزيد من التصارع وتقاسم السلطة والمصالح والنفوذ داخل النظام الطوائفي الكونفدرالي الفاسد .
هكذا بات اللبنانيون امام حقيقة عارية هي ان النظام القائم والشبكة السياسية القابضة أصبحا يشكّلان خطراً على الكيان ، وان السبيل الوحيد لتفادي الإنهيار هو في التوافق على تسوية تاريخية يتأتى عنها تجديد القيادات السياسية لتمكين قوى شابة ونهضوية من إعادة تأسيس لبنان دولةً مدنية ديمقراطية، ومواطنة يتساوى فيها اللبنانيون امام القانون وفي الفرص.