نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 30/11/2015
سؤال مبكر :
ما مصير سوريا بعد دحر "داعش" ؟
د. عصام نعمان
مع الحضور الروسي الكثيف في سوريا ، إنحسر التساؤل عن مصير بشار الأسد . يبدو الرئيس السوري الآن بمأمن من ايّ خطر أمني او سياسي ماثل. لكن ماذا عن سوريا ؟
لعل السؤال الأدق هو : ما مصير سوريا بعد دحـر"الدولة الإسلامية –داعش" ؟ الدافع الى طرح السؤال الحشدُ العسكري الضخم الذي تُشارك في تكوينه وتفعيله دول كبرى ومتوسطة وتنظيمات واطراف عربية واخرى اقليمية . الحشد كثيف ومهيب ، فهل تتطلّب الحرب ضد "داعش" كل هذه القوات والقدرات والإستعدادات؟ واذا لم يتمكّن هذا الحشد العالمي غير المسبوق من دحر"داعش" ، ماذا سيكون مصير سوريا ؟ بل ماذا سيكون مصير عالم العرب ؟
سؤال آخر له صلة بسوريا : هل رجب طيب اردوغان جاهل ام مغامر؟ هل يعقل ان يكون جاهلاً حجم التبادل التجاري بين بلاده وروسيا الذي يصل الى 44 مليار دولار سنوياً ، وان روسيا تغذي نصف احتياجات بلاده من الغاز ، وان عدد السياح الروس يُعدّ الثاني بعد الالمان الزائرين لتركيا ، وقد بلغ نحو 4,5 مليون سائح في العام الماضي؟ ما الهدف او المربَح الذي ستحققه تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية داخل سوريا او على حدودها الشمالية ؟
اردوغان يعزو اسقاط الطائرة الى الجهل: "فلو عرفنا انها روسية الهوية لَما قمنا بإسقاطها ، لكننا لن نعتذر"!
لنفترض ان ما يقوله صحيح ، أليس اتضاح هوية الطائرة سبباً كافياً للإعتذار ؟ ألا يستحق صون المصالح الإقتصادية المشتركة بين البلدين ثمناً زهيداً لا يزيد عن اعتذار بروتوكولي ؟
اردوغان ليس ساذجاً لتغيب عن ذهنه كل هذه الامور. يجب ان يكون ، اذاً، دافعٌ بالغ الأهمية لإقدامه على إسقاط الطائرة الروسية ولإحجامه عن الإعتذار. هل هو ردع روسيا عن دعم الجيش السوري (وربما ردع اكراد سوريا ايضاً) في حملته الناشطة لإستعادة كامل منطقة شمال حلب من جرابلس الى عفرين وبالتالي منع انقرة من اقامة "منطقة انسانية آمنة" فيها ؟ هل تستحق اقامة هذه المنطقة تلك المغامرة المكلفة ؟
الولايات المتحدة كانت تتحفظ بشأن سعي تركيا لإقامة منطقة آمنة في شمال غرب حلب. بعد الحضور الروسي الكثيف في سوريا ، ابدت واشنطن ليونةً تجاه المسعى التركي وشفعت ذلك بتبريرٍ لإسقاط الطائرة الروسية مفاده أنه "من حق تركيا الدفاع عن النفس ". في المقابل ، موسكو اتهمت واشنطن بأنها وفّرت لأنقرة، بموجب اتفاق التنسيق الجاري بينهما ، معلوماتٍ كانت زودتها بها حول حركة طائراتها الحربية في سماء سوريا.
ازاء ما بدا أنه تواطؤ اميركي– تركي ، سارعت موسكو الى اتخاذ خطوتين: الاولى استراتيجية والثانية تكتيّة . تجلّت الخطوة الاولى بترفيع مستوى حشدها العسكري بنشر قواعد لصواريخ 400-S في مطار حميميم السوري واستقدام ثلاثة اسراب من الطائرات المقاتلة لتحمي الطائرات القاذفة اثناء قيامها بتنفيذ مهامها. تجلّت الخطوة الثانية بمباشرة قصف مواقع وتحشيدات مختلف التنظيمات الإرهابية في محاذاة الحدود السورية – التركية وعلى معابرها وصولاً الى مواقعها في جبل التركمان بين محافظتيّ اللاذقية وادلب.
تسبّبت الخطوة الإستراتيجية ، ولاسيما نشـر صواريخ 400 – ٍS ، بـِ" قلق اميركي جدّي" . ذلك ان من شأنها ، بحسب ضابط اميركي كبير ، إحداث تغيير جـذري في موازين القوى ، ليس في منطقة الشرق الاوسط فحسب بل في منطقـة البحر المتوسط كلها ، كما من شأن العمليات الجوية الروسية اعاقة الطلعات الجوية للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. اما الخطوة التكتيّة فإنها تتيح نصب كمائن للمقاتلات التركية على طول الحدود مع سوريا. فحركة القاذفات الروسية بمحاذاة الحدود السورية - التركية قد تجتذب المقاتلات التركية الى مسافات قريبة منها ما يشكّل فرصة سانحة وعذراً كافياً للمقاتلات الروسية كما لصواريخ 400- S للنيل منها . فوق ذلك ، واكب الخطوة التكتيّة ، التي يستفيد منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (السوري) "ووحدات حماية الشعب الكردي" ، اعلانٌ بإستعداد موسكو لدعمهما في وجه "داعش" . ذلك عزز الظنون بأن القادة العسكريين الروس خططوا مع القادة العسكريين السوريين من اجل مباشرة عملية واسعة ضد "داعش" في محافظة الرقة التي تشكّل مرتكز ثقله الاساسي.
المبادرات والتحركات الروسية اقلقت الاميركيين فسارعوا الى دعم "وحدات الحماية الكردية" بنحو 50 مستشاراً ومدرِّباً لتعزيز جهودها القتالية ضد "داعش". يبدو كأنما هناك سباق بين مختلف اطراف الحرب الى تحرير الرقة بغية كسب الجائزة الاولى وما يليها من مكاسب. فالسوريون ، ومعهم الروس ، يريدون ان يتمّ دحر"داعش" على ايديهم فلا يكون للغير، ولاسيما للاميركيين وللأكراد المتعاونين معهم ، اي جميل او دور لتعويضهم بترتيبات تمسّ بوحدة الاراضي السورية . اما الاميركيون فيريدون لحلفائهم الاكراد السوريين ان يكون لهم دور مؤثّر في دحر "داعش" ليدعموا بموجبه مطالبتهم بصيغة للحكم الذاتي.
يبقى ان المتضرر الاكبر من هذه التطورات المحتملة هو انقرة لأنها تخسر بدحر "داعش" حليفاً ضمنياً يشاطرها العداء لسوريا وقيادتها السياسية ، كما تخسر بتقاسم اكراد الشمال السوري مع دمشف مزايا الإنتصار على "داعش". هذا الإحتمال الماثل قد يحمل انقرة القلقة على تكثيف دعمها لحلفائها (جبهة "النصرة" و"احرار الشام " و"الجبهة الشامية" وبعض وحدات "الجيش الحر") بغية الحؤول دون نجاح خصومها في تسجيل نصر حاسم على "داعش". وربما يغري موقفٌ تركي متشدد وفاعل ضد خصوم انقرة ومنافسيها في الساحة السورية بعضَ دول الخليج بتعزيز قدرات حلفائها السوريين ("جيش الإسلام" و"احرار الشام" وغيرهما) لإضعاف الحكم في دمشق . فوزير الخارجية السعودي عادل الجبير ما انفك يصرح بأن "بشار الاسد لا يملك إلاّ خيارين : إما الرحيل في شكل سلمي او الإبعاد بعد عمل عسكري". لكنه لا يوضح من سيتولى القيام به !
ثم ، هناك "اسرائيل" الحريصة على استغلال الصراع المحتدم من اجل تحقيق غرضها الاثير وهو تفكيك سوريا الى جمهوريات موز هزيلة على اسس عرقية او مذهبية او قبلية.
هذه التطورات المحتملة تزيد الصراع في سوريا وعليها احتداماً ، كما من شأنها اطالة امد الحرب الدائرة في ساحاتها وعلى كامل جغرافيتها ، وان تنعكس تالياً على وحدتها الوطنية والسياسية . أفلا يجوز السؤال ، في اطار التحسّب للمخاطر والمطامع المنتظرَة ، عن مصير سوريا بعد دحر "داعش" ؟