نشرت في جريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 16/11/2015
الإرهاب غرام وانتقام و... فتنة
د. عصام نعمان
ضربت "الدولة الإسلامية - داعش" ضربتين شديدتين بالغتيّ العنف والوحشية والدويّ في دولتين خلال يومين ، فأودت بحياة العشرات وجرحت المئات وخلّفت دماراً وأضراراً بآلاف ملايين الدولارات.
الضربة الثانية ، في قلب باريس ، كانت الأقسى والأفتك والأكثر دوّياً من الاولى في ضاحية بيروت الجنوبية لسبب لافت هو استهدافها عاصمة دولة كبرى. ما حدث في بيروت وباريس ، كان له ، وما زال ، وقع مدوٍّ هائل كأنه صوت ارتطام النجوم . كيف لا وقد ارتقت "الدولة الإسلامية" به ومعه الى رتبة دولة كبرى.
في فرنسا ، لن يكون المشهد السياسي بعد الضربة المزلزلة كما كان قبلها. محكومٌ على قادتها ان يتوقفوا عن مراعاة "داعش" كرمى لعيون الحلفاء الإقليميين والأصدقاء المدللين من المعارضين السوريين "المعتدلين". السكوت والمكابرة اصبحا مستحيلين. لكن صعود اليمين المتطرف، خصوصاً "الجبهة الوطنية" العنصرية، الى صدارة المشهد السياسي لن يكون مستحيلاً.
في لبنان ، الضربة كانت شديدة وموجعة . الإرهاب التكفيري سددها الى لبنان واللبنانيين بقصد الثأر من المقاومة. قبلها بنحو اسبوعين سدّد ضربة مماثلة لروسيا بإسقاطه طائرة مدنية في سيناء تغصّ بركابٍ روس ابرياء. بين الضربتين الموجعتين حرص الإرهاب التكفيري على قصف المدنيين بوحشية في احياء دمشق وحلب وحمص واللاذقية.
كل هذه الهجمات الوحشية شكّلت ، وستشكّل من الآن فصاعداً ، ردود أفعال إنتقامية من "الدولة الإسلامية – داعش" ضد اعدائها الإيديولوجيين والسياسيين والعسكريين وفق جدول اولويات يقدّم الاهم ، في نظرها ، على المهم والخطر الأقرب على الخطر الأبعد.
سلوكيةُ "الدولة الإسلامية" هذه تنطق بحقيقة صارخة مفادها أن الإرهاب، وفق "ادارة التوحش" ، غرام وانتقام . وحدهم المصابون بعمى الالوان والذين يتحكّم بهم الغرض ، والغرض مرض، يجهلون او يتجاهلون في هذا السياق حقائق ثلاثاً إضافية ساطعة:
اولاها ، ان الإرهاب التكفيري عموماً وإرهاب "داعش" خصوصاً اصبحا خطراً شاملاً يهدد العالم برمته ، دولاً وشعوباً ، وان عداوتهما الإستراتيجية لكلِ مَن ليس منهما ، فكرياً وتنظيمياً وسياسياً ، تجري ترجمته مرحلياً بهجمات بالغة الوحشية في الزمان والمكان . فمن لا تستهدفه حروب "داعش" في الحاضر لن يكون بمأمن منها في المستقبل.
ثانيتها ، ان "الدولة الإسلامية" تمتلك من القدرات ، البشرية والإقتصادية والفنية ، ما يضعها من حيث الفعالية في مصاف دولةٍ كبرى. ليس ادل على ذلك من انها لم تتوانَ عن مهاجمة دولٍ كبرى ، كروسيا وفرنسا ، كما تقوم بلا هوادة بمهاجمة دولٍ ومجتمعات على مدى رقعة جغرافية تمتد من اليمن شرقاً الى تونس غرباً مروراً ببلاد الشام وبلاد الرافدين ، ناهيك عن قيامها بتهديد روسيا في عقر دارها (بقولها "إن الدماء ستجري فيها انهاراً!") وتهديد دول اخرى في الشرق والغرب . الى ذلك ، تتحالف مع دول وحكومات وازنة وتتلقّى منها اموالاً طائلة واسلحة متطورة وعتاداً ، وتتمتع عبرها بتسهيلات تجارية ولوجستية بشرية وفنية.
ثالثتها ، ان دولةً ارهابية على هذا المستوى العالي من الإمكانات والقدرة على الإنتشار والفعل المدمر لا تصحّ مواجهتها ، بفعالية ، إلاّ عالمياً وبتحالف عريض وقوي بين دول وحكومات ، وبمشاركة واسعة من تنظيمات شعبية مقتدرة وجادة في تنفيذ إلتزاماتها.
ليس ثمة ما يشير الى ان الولايات المتحدة ادركت هذه الحقائق الثلاث ومفاعيلها وما تقتضيه من متطلبات . فهي ما زالت متهاونة في توجيه ضربات جوّية قاسية لـِ "داعش" في العراق وسوريا ؛ وما زالت ناشطة في توريد اسلحة لتنظيمات تعتقد انها موالية للمعارضة السورية "المعتدلة" بدعوى مقاتلة "داعش" والجيش السوري في آن مع علمها بأن معظم هذه الأسلحة ينتهي الى ايدي "داعش" ؛ وما زالت ترفض التنسيق مع سوريا وحلفائها من اجل ترفيع فعالية الحرب على "داعش" كونها تعتبر سوريا بقيادة بشار الاسد عدواً ؛ وما زالت تتريث في دعم مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي لأنها لا تريد القطع مع تيار الاخوان المسلمين في مصر وسائر عالم العرب؛ وما زالت تتباطأ في تنبيه حلفائها الى خطر "القاعدة" و"داعش" في مناطق جنوب اليمن ، ولا سيما في حضرموت وعدن.
تركيا هي الاخرى ما زالت تتهاون في مواجهة "داعش" ، وترى ان له دوره الفاعل في مواجهة اكراد سوريا في شمال شرق البلاد الذين تشكو من تعاونهم مع حزب العمال الكردستاني التركي ، وتخشى من انفرادهم بإقامة حكم ذاتي في محافظة الحسكة وجوارها. الى ذلك ، ما زال رجب طيب اردوغان ، ولا سيما بعد انتصار حزبه في الإنتخابات ، يمنّي النفس بأن تدعم "الاسرة الدولية اقتراحه بإقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية" ، وهو يؤمل بأن يحظى بتأييدٍ لمشروعه من قمة مجموعة العشرين التي تستضيفها بلاده.
هذا التباين ، بل التناقض، بين روسيا وايران وسوريا من جهة والولايات المتحدة وتركيا ودول "الناتو" وحلفائها الإقليميين من جهة اخرى يستفيد منه "داعش" لتشديد ضرباته الوحشية في عمق سوريا ولبنان والعراق ومصر واليمن، ظناً منه انها تؤدي الى ضعضعة حكوماتها وقواها الامنية وربما تُسهم في دعم البيئات الحاضنة لخلاياها النائمة. غير ان هجماته الفائقة الوحشية حتى الآن اعطت نتائج عكسية ، لاسيما في لبنان . فقد تجاوزت فئاته السياسية المتناحرة خلافاتها وتشنجاتها العصبية ، وتلاقت جميعها في ادانة "داعش" وجريمته النكراء، وتداعت الى التماسك الوطني في وجه الإرهاب والإرهابيين ، والى سد الثغرات السياسية التي يتسلل منها "داعش" لإشعال فتنة مذهبية بين اهل السنّة واهل الشيعة ، وبين اللبنانيين والفلسطينيين . فالشقاق السنّي – الشيعي على مستوى عالم الإسلام برمته اضحى التربة الخصبة لإشعال فتن مذهبية مدمرة في دوله ومجتمعاته.
هذا التناقض في الموقف بين الأطراف الدولية والإقليمية حيال "داعش" وطرائق التعامل معه او مواجهته ادى الى تهديد مصير مؤتمر فيينا -2 الذي كانت دعت اليه روسيا في محاولة لتجسير الفجوة بين مختلف فصائل المعارضة السورية من جهة وبينها وبين الحكومة السورية من جهة اخرى. فقد اصرّت الولايات المتحدة وحلفاؤها على حصر تمثيل المعارضة السورية بجماعة "الإئتلاف الوطني" (خالد خوجه) الذي يتخذ من اسطنبول مقراً له في حين اصرت روسيا وحلفاؤها على تمثيل هيئات معارضة اخرى من بينها "مجموعة استانا" (رندا قسيس) ولجنة "مؤتمر القاهرة" (هيثم مناع) وحزب الارادة الشعبية (قدري جميل) و"هيئة التنسيق الوطني" (حسن عبد العظيم). غير ان اميركا وحلفاءها تحفظت بدعوى ان "الإئتلاف الوطني" كان حاز على تأييد "مؤتمر اصدقاء سوريا" و120 دولة شاركت في لقائهم الاول في باريس، متجاهلةً ان مياهاً كثيرة جرت تحت الجسور في السنوات الثـلاث الاخيرة ، وان لا وجود ميدانياً فاعلاً لـِ "الإئتلاف" ، خصوصاً بعد الحضور الروسي الكثيف، سياسياً وعسكرياً ، منذ مطلع الشهر الماضي.
ماذا بعد ؟
اذا ما بقي التناقض بين الأطراف الدولية والإقليمية سائداً ، فلا سبيل الى حسمه إلاّ في الميدان وعلى مرأى ومسمع من سائر المشاركين والمتفرجين...