نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 2/11/2015
مدلول مؤتمر فيينا :
إنهاء "داعش" واخوته يتقدّم الحل السياسي
د. عصام نعمان
لا غلوّ في القول إن واشنطن وموسكو توافقتا ، اخيراً ، على ان خطر تنظيم "الدولة الإسلامية-داعش" داهم وشامل وانه يتهددهما كما العالم اجمع. تطوران مهمان حملاهما على التسليم بهذه الحقيقة وبضرورة توليد ارادة مشتركة وتفاهم استراتيجي لمواجهة مفاعيلها : تعاظم قدرات "داعش" ، بما هو محور "الإسلام الجهادي" ورأس حربته ، وصمود سوريا في وجه استغلال واشنطن وحلفائها الإقليميين لـِ "داعش" واخوته لإسقاط نظامها السياسي وتفكيكها الى كيانات مذهبية وأثنية بالتزامن مع عملية مماثلة في العراق.
موسكو ادركت باكراً قوة "داعش" وشمولية خطره ، فسعت لحمل واشنطن على الكفّ عن استغلاله في مخططها المعادي لسوريا ، واتخذت لهذه الغاية خطوة وقائية لافتة بموافقتها على نزع اسلحة سوريا الكيميائية لتحقيق هدفيـن استراتيجيين : إجهاض ضربة اميركية وشيكة وموجعة لسوريا في العام 2013 من جهة ، وتفادي إمكانية وقوع تلك الأسلحة المدمّرة في ايدي "داعش" او غيرها من التنظيمات الإرهابية من جهة اخرى. ذلك ان الإستخبارات الروسية كانت تأكدت من ان "داعش" استخدم سلاحاً كيميائياً ضد الجيش السوري في محيط مدينة حلب كما في محيط مدينة دمشق ، وانه لن يتورع في قابل الايام عن استخدام السلاح الكيميائي وغيره من اسلحة الدمار الشامل ضد روسيا واميركا وسائر اعدائه اذا ما اقتضت مصالحه الإستراتيجية .
واشنطن كانت تدرك هذه الحقيقة ، لكنها تباطأت في مصارحة حلفائها الإقليميين بها آملةً ان يتمكّنوا من اسقاط دمشق قبل ان تجد نفسها (اميركا) مضطرةً الى إنهاء تعاونها الظرفي مع "داعش" والمباشرة في مواجهته جدّياً. هذا يفسر عدم فعالية الغارات المسرحية التي شنتها طائرات "التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب" ، طيلة اشهر وسنوات ، على مواقع "داعش" في سوريا والعراق ، كما تهديد اميركا لـِ "الحشد الشعبي" بقصف وحداته المقاتلة اذا ما حاولت مساندة الجيش العراقي في هجومٍ (كان) مقرراً لإسترداد مدينة الرمادي من براثن "داعش".
مع توسع "داعش" في شرق سوريا (تدمر) وجبهة النصرة في غربها (ادلب) قدّرت موسكو ان احتمال انتصار تنظيمات "الإسلام الجهادي" لا يشكّل خطراً على وحدة سوريا ونظامها وسيادتها فحسب بل على أمن روسيا القومي ايضاً. ذلك ان روسيا الاتحادية دولة تعددية تضم جمهوريات اسلامية يتعاطف بعض مواطنيها مع شعارات "الإسلام الجهادي" ويشارك بعضهم الآخر في الحرب التي تشنها "داعش" و"النصرة" وغيرهما في سوريا والعراق وعليهما.
اكثر من ذلك ، سرّبت موسكو للإعلام تقديرات استخبارية مفادها ان "داعش" بصدد استعمال اسلحة كيميائية ضد اعدائه في سوريا والعراق. قبل ذلك، كان الرئيس فلاديمير بوتن صرح خلال استقباله رؤساء استخبارات بلدان رابطة الدول المستقلة في موسكو "أن الارهابيين يستغلون الشرق الاوسط كقاعدة لتدريب مقاتلين جدد قبيل إرسالهم الى مناطق اخرى لزعزعة الإستقرار فيها . يجب رفع مستوى التعاون بين الدول في هذا المجال واعتماد الاساليب الاكثر فعالية ووضع مقاربات موحدة لتحقيق الإهداف المحددة".
في الواقع ، كان بوتن قد بدأ ، قبل اسابيع، بوضع افكاره وخططه موضع التنفيذ بتكثيف حضور روسيا برياً وجوياً وبحرياً في سوريا وبمباشرة سلاحها الجوي غارات هادفة ودقيقة على مواقع "داعش" و"النصرة" في شمال البلاد وغربها وصولاً الى مواقعهما في محافظتيّ درعا والقنيطرة في جنوبها . مدلول هذه الحملة الروسية المتعاظمة داخل سوريا ان موسكو عازمة على حرمان التنظيمات الإرهابية مواطيء اقدام ومواقع ارضية يمكن اتخاذها قواعد للتدريب والتجهيز ومنطلقات لشن هجمات مدمرة لا تقتصر على سوريا والعراق بل تمتد الى بلدان مجاورة وربما الى روسيا تحديداً.
أدركت واشنطن ، بعد طول لأيٍّ ومخاتلة ، ان الحضور الروسي في سوريا ليس من شأنه ترجيح ميزان القوى لمصلحة الرئيس بشار الاسد فحسب ، كما قالها صراحةً رئيس هيئة اركان الجيوش الاميركية الجنرال جوزف دنفورد ، بل من شأنه ايضاً توليد تداعيات تهدد حضور اميركا ونفوذها في الشرق الاوسط. وعليه، ليّنت واشنطن موقفها ودعت حلفاءها الاطلسيين والإقليميين الى التسليم بأن الإرهاب هو الخطر الاكبر الذي يهدد الجميع وان مواجهته بجدّية هو الأولوية الاولى في هذه المرحلة المترعة بالحروب والإضطرابات من ليبيا الى اليمن مروراً بمصر وسوريا والعراق وفلسطين.
معنى مؤتمر فيينا ، اذاً ، هو إقرار اطراف الصراع، ولو بدرجات متفاوتة، بأن الخطر الاكبر والأدهى هو الإرهاب وان إنهاء "الدولة الإسلامية"، بما هي محوره ورأس حربته ، يتقدّم الحل السياسي الذي سيكون ، بطبيعة الحال ، مدار مفاوضات وتجاذبات لمدة طويلة مشروطة بالزمن المطلوب لإقتلاع تنظيمات الإرهاب من سوريا واستعادة وحدتها الجغرافية والسياسية. لكن ذلك لا يمنع ممثلي النظام والمعارضة من التفاوض في فيينا منتصفَ الشهر الحالي من اجل التوافق على دستور جديد للبلاد وإنتخابات .
بهذا المعنى تكون سوريا ، رغم غيابها عن مؤتمر فيينا ، الرابح الاول من انعقاده بما ينطوي عليه من مدلولات سياسية واستراتيجية. غير ان ذلك لا يعني ان الصراع سوف يهدأ وان وتيرة الإضطرابات في عالم العرب سوف تتلاشى . بالعكس ، ثمة جبهات في هذا البلد او ذاك ستبقى مشتعلة في سياق اغراض ومصالح ، اقليمية ودولية ، يراد تحقيقها على حساب قوى محلية تحاول هي الاخرى استخلاص حصتها في حمأة المساومات والمقايضات الجارية لإعادة رسم خريطة تقاسم المصالح والنفوذ في الشرق الاوسط الكبير.