انتفاضة فلسطين ناجحة لأنها مستمرة وشاملة
د. عصام نعمان
انتفاضة فلسطين الثالثة فصلٌ من فصول ثورة فلسطين المستمرة منذ 1936 مروراً بحرب 1948، ثم بحروب وانتفاضات الربع الاخير من القرن العشرين ، وصولاً الى مثيلاتها في العقدين الاول والثاني من القرن الحادي والعشرين. إنها ثورة واحدة مستمرة بإشكال مختلفة ووتائر متفاوتة في حدّتها وشمولها .
ميزات ثلاث تتفرد بها الإنتفاضة الثالثة عن سابقاتها :
أولاها انها شاملة بفعالياتها كامل فلسطين التاريخية من النهر الى البحر. لذا تستحق وصفها بأنها "إنتفاضة فلسطين الثالثة" : فلسطين كلها بأرضها وشعبها ، بقطاع غزة المتحرر، والضفة الغربية المستباحة بالإستيطان ، ومناطق 1948 المحكومة بالعنصرية الصهيونية.
ثانيتها انها بقيادة شعبها نفسه. لا منظمة التحرير تقودها ولا السلطة في رام الله ولا الفصائل المتنافسة ، في معظمها ، على الصدارة والنفوذ. شبان وشابات من الشعب هبّوا ويهبّون بقرار فردي ، من تلقاء انفسهم ، كلٌ في بيئته ومحيطه وبقدْر ما تطال يده وذراعه.
ثالثتها انها مقاومة مدنية فريدة بأسلحة بدائية ، وصناعة ذاتية ، قوامها الطعن بالسكاكين ، وقذف الحجارة ، والدهس بالسيارة.
ميزاتها الثلاث هذه اربكت "اسرائيل" ، جمهوراً وحكومة. بعض ارباب العائلات مكثوا في بيوتهم خوفاً وتحوّطاً. لم يذهبوا الى اعمالهم ، وابقوا اولادهم معهم بعيداً من رياض الأطفال والمدارس . بعضهم الآخر نزح الى اماكن ظنّ انها اكثر اماناً. وثمة من تسلّح بمسدس او ببندقية. غير ان اكبر الأضرار كان من نصيب الإقتصاد : توقفُ قطاع البناء لإمتناع العمال عن الذهاب الى مواقع العمل، شلل الأسواق ، ومعاناة البورصة من هبوط ملحوظ وخسائر.
ليس ادل على شمولية الإنتفاضة الثالثة من لامركزيتها الجغرافية. اعمال الطعن ، والدهس، وقذف الحجارة ، والتظاهرات انتشرت على مدى جغرافية الوطن المحتل كلها بوتائر متصاعدة. ذلك أكره حكومة نتنياهو على اتخاذ جملة اجراءات غير معهودة : دعوة احتياطي الجيش لمؤازرة قوات الشرطة ؛ حصار احياء في القدس ومدن اخرى وعزلها عن محيطها ؛ تكثيف حواجز الشرطة في الطرق ومداخل المدن والأحياء ؛ ونشر كتائب الجيش على امتداد جدار الفصل ؛ تشديد العقوبات على نحو غير مسبوق بما في ذلك الترخيص للشرطة كما للمستوطنين بـِ "جباية الثمن" مباشرةً قبل اي تحقيق او محاكمة ، اي الترخيص لهم بإعدامات في الشارع ؛ إلغاء تراخيص اقامة المتهمين بتنفيذ عمليات في القدس الشرقية وعائلاتهم وتسريع هدم بيوتهم ، ومنعهم من إعادة بنائها.
عنف العقوبات وعنصريتها حملت ، اخيراً ، الامم المتحدة على تعنيف حكومة "اسرائيل" ودمغها بـِ "الإفراط في استعمال القوة". ادارة اوباما احسّت بدورها بوطأة الوضع وخطورته وتداعياته فأوعزت ، بطلب من "اسرائيل" ، الى وزير الخارجية جون كيري بأن يتوجّه الى "تل ابيب ورام الله من اجل "التهدئة وإستئناف المفاوضات".
التهدئة واستئناف المفاوضات مطلبان اسرائيليان مزمنان. نتنياهو لا يضيره ان تعود واشنطن الى طرحهما وتسويقهما. غير انهما لا يعنيان للفلسطينيين شيئاً ، لا في الماضي القريب ولا في الحاضر المضطرب. هل ابقت "اسرائيل" بسياستها الإستيطانية التوسعية شيئاً للفلسطينيين ليتفاوضوا بشأنه ؟ ابو مازن محمود عباس كان وافق على استئناف المفاوضات شريطة ان تتوقف "اسرائيل" عن اعمال الإستيطان . اوباما حاول إقناع نتنياهو بإستجابة الطلب ، لكن دونما جدوى. وساطة كيري مرشحة ، اذاً ، للفشل.
في المقابل ، الإنتفاضة ايضاً مرشحة للتصاعد . ثمة حال سخط وثورة تلفّ شعب فلسطين في كل مكان وتوفّر وقوداً جاهزة لثورةٍ محكوم عليها بأن تبقى مستدامة . هذا الواقع لم يمنع بعض "الواقعيين " من اهل "النظام" الفلسطيني الحاكم في رام الله كما سواهم من التساؤل عن جدوى الإنتفاضة في لحظة توازن القوى الراهن غير المتكافيء. يقولون إن الفلسطينيين قاوموا اعداءهم في كل انتفاضاتهم منذ 1936 وسط موازين قوى مائلة ضدهم، فكان من الطبيعي ان يخسروا . حتى عندما كانوا يُحرزون ، بمعايير الظروف السائدة ، بعض المكاسب فإنهم سرعان ما كانوا يخسرونها في الإنتفاضة التالية نتيجةَ مخطط صهيوني عنصري قوامه إكراه الفلسطينيين على دفع ثمن باهظ لكل انتفاضة يقومون بها بغية زرع الإحباط في نفوسهم والحؤول دون تقدّم قضيتهم وتفادي انتصار نضالهم الموصول.
هذا المخطط الصهيوني العنصري واضراره الباهظة لم يغب قط عن اذهان الفلسطينيين ، لكنه لم يكسر ارادتهم الثورية . فقد ادركوا ، بحق ، ان الشرط الاول للإنتصار في صراع طويل قد يمتد على مدى جيل او جيلين ، وربما قرن او قرنين ، هو إبقاء القضية حيّة . ابقاؤها حية يستوجب ثورةً مستدامة اياً كانت التكلفة والثمن الى ان يتمكّنوا ، وسائر الأحرار من العرب ، من تغيير موازين القوى لصالحهم .
من الواضح ان موازين القوى لا تتغيّر إلاّ بفعل عوامل متعددة ليس اقلها موازين الإرادات . والحال ان الفلسطينيين، ماضياً وحاضراً ، حرصوا على ان يتفوقوا بجدارة في صناعة الإرتقاء بموازين الإرادات لمواجهة موازين القوى. ألا يتجلّى ذلك في الحروب والإنتفاضات المتعاقبة ، ولاسيما الإنتفاضة الثالثة ؟
نعم ، انتفاضة فلسطين الثالثة ناجحة لأنها مستمرة ، متواصلة ، وشاملة ولأنها تعتمد في الصراع موازين ارادات صلبة لا تلين ... حتى النصر.