الحرب الاهلية أعدى أعداء التنمية
د. عصام نعمان
اقرّ 150 رئيس دولة وحكومة اواخرَ الاسبوع الماضي في مقر الامم المتحدة 17 هدفاً للتنمية المستدامة في اطار خطة طموحة تَعِد بعالم افضل خلال 15 سنة في شتى الميادين ، خصوصاً التعليم ، ومكافحة الفقر ، والرعاية الصحية، والبيئة ، بالإضافة الى مكافحة الفساد ، ومعالجة النمو الديموغرافي ، والنزوح الى المدن ، وكثافة السكان .
يقول خبراء متخصصون إن تمويل هذه الخطة الاممية الطموحة سيتطلب رصد ما بين 3,5 تريليون دولار اميركي وخمسة تريليونات سنوياً على مدى 15 سنة او اكثر . ذلك يتخطى ، على سبيل المثال ، اجمالي الناتج الداخلي في فرنسا وبريطانيا او المانيا .
الامين العام للامم المتحدة بان كي مون شدد على "وجوب البدء بالعمل فوراً على تنفيذ الخطة طالباً من "الحكومات جميعاً ان تقرّ في باريس في ديسمبر/كانون الاول المقبل اتفاقاً متيناً شاملاً حول المناخ ".
لا تشكّل التغيّرات المفاجئة والكاسحة في المناخ التأثير السلبي الوحيد في التنمية. السفيرة الامريكية في الامم المتحدة سامنتا باور ذكّرت المؤتمرين بأن "الحرب الاهلية في بلد نامٍ يمكن ان تعيد اقتصاده 30 سنة الى الوراء".
أحسنت مندوبة الولايات المتحدة في تذكير الجميع بالتأثير المدمر للحرب الاهلية في مسار التنمية ، سيّما وان بلادها ، ودول اخرى في الشرق والغرب ، تُسهم في تأجيج حروب اهلية عدّة ، كما تسهم ، يا للمفارقة ، في محاولة إخمادها!
ليس من الغلو القول ، والحال هذه ، إن الحرب الاهلية باتت النمط السائد في الصراعات بين الدول في القرن الحادي والعشرين. ذلك ان الدول الكبرى لاحظت التكلفة الباهظة للحروب العالمية التي اندلعت في النصف الاول من القرن الماضي ، فلجأت في نصفه الثاني الى نمط الحروب الاقليمية كي تصفّي خلالها حساباتها فيما بينها او تسعى الى تنفيذ مخططاتها. يبدو ان تكلفة الحروب الاقليمية كانت هي الاخرى باهظة ، فكان لا بد من خفضها باللجؤ الى طريقة اخرى . لذلك جرى اعتماد نمط الحرب الاهلية.
ليست التكلفة وحدها الدافع الأهم لتوسيع ظاهرة الحرب الاهلية . ثمة دافع آخر لعله الأكثر اهمية . انه سلوكية مثيري الحرب الاهلية ومنفذيها. ذلك ان الفهم السائد في العالم هو ان الحكومات ، ولاسيما حكومات الدول الكبرى ، هي من يُوقد نار الحروب الاهلية ويمدها بأسباب استمرارها . لكن نظرة متأنّية الى أبعاد هذه الظاهرة تكشف ان الشعوب ، وليس الحكومات فقط ، لها دور ملحوظ في هذا المجال. الشعوب تُسهم في إطلاق الحروب الاهلية وترعى استمرارها من خلال جماعات اهلية وتنظيمات شعبية يكون لها ،غالباً ، دور فاعل في المجتمع . صحيح ان بعضاً من هذه الجماعات والتنظيمات له صلات حميمة مع بعض الدول فيتلقى منها دعماً ومساعدات مالية وعسكرية، لكن بعضها الآخر يكون مستقلاً ويلجأ الى الكفاح المسلح مضطراً او يُكرَه على ذلك لأسباب قومية او وطنية او اجتماعية.
اياً كانت الاسباب والدوافع ، فإن العالم يجد نفسه اليوم امام ظاهرة شديدة الحضور هي الحرب الاهلية ، وان "ابطالها" ومتعهديها ليسوا حكومات فحسب بل شعوب ايضاَ ، بمعنى جماعات وتنظيمات سياسية ذات قواعد شعبية عريضة.
تكتسب ظاهرة الحرب الاهلية خطورة اضافية بتحوّل بعض مطليقها والقائمين بها كيانات لها الكثير من مقوّمات الدولة. إن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش" ، على سبيل المثال ، يسيطر على رقعة من الارض في العراق وسوريا ربما تزيد عن مساحة فرنسا ، ويستحصل على دخول من عائدات النفط بمئات ملايين الدولارات ، ويرصد ميزانية لـِ "دولته" تتجاوز بمراحل ميزانيات دول عدّة ، آٍسيوية وافريقية ، ويرعى جيشاً من مقاتلين عرب واجانب يربو عديده على مئة الف مقاتل . إن كياناً او "دولة" بهذه القدرات لها تأثيرات مدمرة ومعوّقة في مجالات شتى ، ولاسيما في مجال اعاقة التنمية . أليس هذا حال العراق وسوريا نتيجةَ حرب "داعش" فيهما وعليهما ؟
إن القصد من تسليط الضوء على ظاهرة الحرب الاهلية هو التأكيد على ان العامل الأفعل في إنجاح الخطة الإنمائية الاممية هو معالجة اسباب معوّقات التنمية ودوافعها وليس فقط نتائجها . فالحرب الاهلية معوّق رئيس للتنمية ، ومواجهته لا تكون ، فقط ، بقمع القائمين بها بل بالإحاطة بأسبابها ودوافعها ومعالجتها في مهدها وجذورها على نحو يحول دون استغلالها لمآرب سياسية غالباً ما تكون غير مشروعة. ولعل اول وسائل المعالجة فضح الدول التي تتواطأ مع تنظيمات ارهابية لتأجيج حروب اهلية .
لا شك في ان الإحاطة بمعوّقات التنمية ومعالجها هي من اولى واجبات الحكومة ، لكن اتساع قاعدة القائمين بحروب اهلية واستغلالها يلقي على عاتق الشعوب ايضاً ، ولاسيما التنظيمات الشعبية الديمقراطية والتقدمية ، مسؤولية مواجهة رعاة ومتعهدي ومنفذي الحروب الاهلية بكل الوسائل المشروعة ، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ، حتى لو اقتضى الامر مواجهة الحكومات المخالفة ميدانياً ، ولا سيما تلك المتواطئة مع التنظيمات القائمة بالحرب الاهلية.