كم تبلغ تكلفة بطالة الدولة وفساد حكامها ؟
د. عصام نعمان
الإبداع هو أجمل وأطرف ظاهرات الحراك الشعبي الذي يعصف بلبنان منذ نحو شهر . آخر ظاهرات الإبداع قيام جماعتي "بدنا نحاسب" و"حلّو عنّا" بالإعتصام امام مبنى مديرية الواردات – وزارة المال للمطالبة "بوقف تحويل الاموال لدفع رواتب ومخصصات النواب الممددين لأنفسهم والمتمرسين ببطالتهم المقنّعة، وبصرف هذه الاموال للموظفين الكادحين اصحاب الحقوق الذين تمارس السلطة بحقهم الترهيب النفسي فتوهمهم بعدم توفّر السيولة اللازمة لرواتبهم ".
المعتصمون على حق . ذلك ان لمجلس شورى الدولة ، وهو اعلى محكمة ادارية في البلاد ، اجتهاد ثابت لا محيد عنه : "لكل عمل اجر". وهو ، في كل حال ، من ابرز مبادىء القانون العام كما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . مؤدى هذا الإجتهاد المُلزم عدم إنكار حق كل عامل بأجر عادل وبالتالي عدم احقية اي عامل بأجر اذا امتنع عن القيام بعمله.
النواب الممددون ولايتهم لأنفسهم في حال بطالة مقنّعة منذ سنوات واشهر. فهم ممتنعون عن العمل ، ايّ عن حضور جلسات مجلس النواب ، بذرائع شتى ابرزها عدم توفّر النصاب القانوني، وهي ذريعة هم مسؤولون عنها كون اكثرية وازنة بينهم تمتنع عن الحضور فتتسبّب بفقدان النصاب.
في هذا السياق ، كشف المعتصمون حقيقة مؤلمة وطريفة في آن . فقد احتسبوا "تكلفة التمديد لمجلس نيابي غير قائم بأعماله ... مجلس تشريعي لم يشرّع يوماً إلاّ بما يخدم مصلحة اركانه". تكلفة التمديد لهذا المجلس العاطل من العمل (منذ اكثر من 24 شهراً) تبلغ 82 مليار/بليون ليرة لبنانية ، اي نحو 55 مليون دولار اميركي.
هذا المبلغ زهيد بالمقارنة مع مبلغ آخر مهدور ذكّر المعتصمين به احدُ اعيان طرابلس بقوله : "إن مصفاة طرابلس المغلقة منذ اربعين عاماً ، فيها 550 موظفاً تعويض كلٍّ منهم اكثر من مليون دولار"...
الى ذلك ، ثمة إهدار بأرقام فلكية للمال العام نتيجة سرقات وإهمال واحتكارات تتناول قطاعات الدولة الاخرى كالمطار ومنطقته الحرة ، والمرفأ ومنطقته الحرة ، والهاتف ، والاملاك العامة البحرية والنهرية ، والجمارك ، وضريبة القيمة المضافة ، والدوائر العقارية ، والضمان الاجتماعي ، واستيراد المحروقات (البنزين والمازوت) وتوزيعها ، ومعاملات ميكانيك السيارات ، والربى في كازينو لبنان وغيره من مرابع الترفيه والتسلية .
هل حاول احد احتساب تكلفة بطالة الدولة وفساد حكامها منذ استقلال البلاد؟
إنها دولة الفساد والإهدار والزبائنية والمحاصصة العمودية والافقية التي لا نظير لها في العالم المعاصر. ومع ذلك ، لا يقع المرء في بيئة السلطة على مسؤول واحد يعترف ، في الاقل ، بما ارتكب من سرقات او مخالفات او إهمال بل يفاجأ بكوكبة وازنة من مسؤولين او ابناء مسؤولين او اقرباء مقرّبين يعلنون ، بجرأة متناهية ، عن تأسيس مؤسسات ومراصد لمراقبة فساد مسؤولي الدولة وموظفيها !
الأنكى من هذا كله ، ان مسؤولي هذه الدولة المتهرّئة ، حزموا امرهم ، بعد طول تفرّج على الازمة المستفحلة ، وقرروا الدعوة الى طاولة حوار لتدارس ابعادها وتداعياتها وايجاد حلول لها . بعبارة اخرى ، قرر المسؤولون عن الازمة، بعضهم وليس كلهم بطبيعة الحال ، ان يحتكروا هم وحدهم معالجة ذيولها. إنه مظهر آخر من مظاهر الإحتكار الذي يطبع دولة البطالة . هل كان كثير على اهل السلطة العاجزة ان يدعوا الى طاولة الحوار بعض ممثلي اهل الحراك الشعبي ليعرضوا ظلامتهم امامهم ؟
لعل إحجامهم عن "ارتكاب" هذه المغامرة اعتقادهم الراسخ بأن اهل الحراك الشعبي سوف يرفضون دعوتهم الملغومة.
دعوة ملغومة ؟
نعم، ذلك أن بعضاً من كبار المدعوين الى طاولة الحوار امتنع عن الحضور لسببين : الاول لأن فريقاً من اهل السلطة اوعز الى انصاره بأن يندسوا بين المتظاهرين على مفارق الشوارع المؤدية الى مجلس النواب ، حيث يجتمع اعضاء طاولة الحوار ، ليقذفوا خصومهم السياسيين المدعوين الى الطاولة نفسها، بوابل من البيض والبندورة الفاسدة. الثاني لأن ما من فائدة تُرتجى من "الحوار الرسمي" بعدما تكشّفت النيات السيئة لبعض المتحاورين في الجلسة الاولى.
هكذا يتبدّى وضع لبنان حالياً : الكل ضد الكل بين المسؤولين . ومعظم اللبنانيين ضد معظم المسؤولين المتمسكين بكراسيهم . لا ثقة من الناس بمسؤولي دولة متهرّئة ومترنّحة . لا توافق بين مسؤولي هذه الدولة على ما يجب ولا حتى على ما يمكن عمله من اجل الخروج من مأزق الدولة والناس معاً في حمأة ازمة مزمنة مستعصية لا افق لنهاية قريبة لها.
ماذا يستطيع اهل طاولة الحوار عمله في معمعة العجز هذه ؟
لا سبيل ، على ما يبدو ، الى التفاهم على مرشح لرئاسة الجمهورية ليصار الى تعيينه ، نعم تعيينه ، من نواب ممدد لهم ولا شرعية لهم في نظر غالبية اللبنانيين.
لا أفق ، حتى الآن ، للتفاهم على "نموذج" معين لقانون انتخابات عصري وعادل يفسح في المجال لتمثيل جميع شرائح اللبنانيين من دون الإساءة الى مصالح الحاكمين النافذين.
لا تفاهم مقبولاً بين الحاكمين على التعيينات الامنية ولا على القضايا الإجتماعية الملحة ، ولاسيما سلسلة الرتب والرواتب المستحقة الاداء منذ العام 1996.
لا نور في نهاية نفق طويل ... ولا حصافة في اطلاق توقعات وتكهنات. إنه العجز المدوّي على جميع المستويات .
هل من توصيف ادق ؟