الحرب الباردة تتجدد بأدوات حرب ساخنة...
د. عصام نعمان
انتصر الرئيس باراك اوباما على معارضيه الجمهوريين في بلاده . نجا الإتفاق النووي بين ايران ومجموعة دول 5+1 من التصويت عليه (وضده) في مجلس الشيوخ. هل يريد ان "ينتصر" ايضاً ، يا للمفارقة ، على مؤيدي الإتفاق في الشرق الأوسط والعالم ؟ ولماذا ؟
لأن مؤيدي الإتفاق ، ولاسيما روسيا وايران ، يشعرون بأن ادارة اوباما عازمة على تأجيج حربها الباردة ضدهم بأدوات حرب ساخنة كانت باشرت في استخدامها في ذروة مفاوضات الإتفاق النووي في لوزان ثم في فيينا. يدعم مؤيدو الإتفاق ، وهم خصومها الإقليميون في الاصل ، شكوكهم بشواهد متعددة :
- مسارعةُ واشنطن الى إقامة "تحالف دولي لمواجهة الإرهاب" بعدما تأكدت من انهيار المجموعات المسلحة لـِ "المعارضة السورية المعتدلة " على الارض بفعل تنظيمي "داعش" و"النصرة" وغيرهما المدعومة من طرف حلفاء اميركا الإقليميين ولاسيما تركيا الأطلسية.
كل ذلك من اجل منع الجيش السوري من بسط سيطرة دمشق على مناطق التمرد من جهة وضبط توسع "داعش" من جهة اخرى ، فتبقى واشنطن في موقع القدرة على الهيمنة سياسياً وميدانياً على نحوٍ يمكّنها من تنفيذ مخططها الجيوسياسي الإقليمي الرامي الى حماية مصالحها وتعزيز أمن حلفائها الإقليميين ولاسيما "اسرائيل" .
- تمددُ "داعش" في كلٍ من العراق وسوريا بالتزامن مع مباشرة طيران "التحالف الدولي" ضرباته الجوية ضده ما عزز شكوك الروس والإيرانيين بأن غاية نشاطه هي تغطية استمرار الدعم البشري والعسكري لتنظيمات الإرهاب عبر الحدود التركية المفتوحة لمصلحتها.
- دعمُ واشنطن لحرب السعودية على اليمن وسط اتهامات لإيران بأنها متورطة في دعم الحوثيين وسائر معارضي حكومة عبد ربه منصور هادي.
- تهديدُ قيادة "التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب" ، وهي اميركية بقضها وقضيضها ، جماعة "الحشد الشعبي" العراقية بضربها جواً اذا ما حاولت مشاركة الجيش العراقي حملته لتحرير مدينة الرمادي ، عاصمة محافظة الأنبار ، من "داعش" .
- سكوتُ واشنطن على قيام حكومة بنيامين نتنياهو بمضاعفة عمليات الإستيطان في القدس والضفة الغربية واعتقال عشرات الفلسطينيين يومياً ممن يقاومون الإحتلال مدنياً وسلمياً.
كل هذه الواقعات والتطورات فسرتها موسكو ، كما طهران ، بأنها اجزاء من مخطط اميركي متكامل لإعادة ترتيب المنطقة بغية صدّ النفوذ الروسي والإيراني على نحوٍ يقود الى تقسيم سوريا الى ثلاثة او اربعة كيانات ومثلها العراق ، والى تصفية قضية فلسطين ايضاً .
سواء كانت موسكو وطهران مُصيبتين او مغاليتين في شكوكهما وفي قراءتهما لنيات واشنطن وسياستها ، فقد اتخذتا ، منفردتين او مجتمعتين ، سلسلة تدابير سياسية وعسكرية ذات دلالة استراتيجية . فقد حركت موسكو مزيداً من قطع اسطولها البحري بإتجاه الشواطىء السورية شرقيّ البحر المتوسط ، وانزلت وحدات من مغاوير البحر في محيط قاعدتها البحرية في طرطوس ، وأنشأت قاعدة جوية في طرف مطار حميميم (مطار باسل الاسد) ، وافرجت عن مقادير كبيرة من الصواريخ كان جرى التعاقد بشأنها إلاّ انها جمّدت شحنها العام 2013 مراعاةً منها لبدء التحضير لمؤتمر جنيف –2 ، واعلنت صراحةً بلسان وزير خارجيتها لافروف بأن تزويد سوريا بالسلاح والعتاد لمقاومة الإرهاب ليس سراً ، وانها عازمة على الإستمرار في ذلك اياً كانت ردود الفعل.
من جهتها اعلنت ايران بلسان مرشدها الاعلى السيد علي خامنئي انها لن تفاوض الولايات المتحدة إلاّ بشأن تنفيذ الإتفاق النووي ، ذلك انها تعتبرها معادية في سياستها وتحركاتها لها ولحفائها ولا سيما العراق وسوريا وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية . في سياق تناقض اهدافها ومصالحها مع الولايات المتحدة ، وازاء تصعيد "داعش" و"النصرة" عملياتهما الإرهابية في المنطقة عموماً، قامت طهران بمضاعفة دعمها لسوريا مالياً وعسكرياً ، وتجلّى ذلك اكثر ما يكون بقوات من الحرس الثوري جرى نشرها في مواقع حساسة.
في موازاة هذه التطورات ، نشأ تحدٍ كبير وخطير تناول ويتناول بتداعياته ومفاعيله دول عدّة في الشرق الاوسط كما في اوروبا . ذلك ان عشرات الآلاف من السوريين والليبيين ومجاميع من جنسيات اخرى عربية وافريقية ركبوا البحر ويمموا وجوههم شطر ايطاليا واليونان بقصد الإنتقال منها الى المانيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا بقصد اللجؤ . هذه الهجرة الجماعية الهائلة تسبّبت بكارثة بشرية واجتماعية لا تقل عنها هولاً بعدما فَقَد الالوف منهم في قوارب الموت حياتهم عبر المتوسط ، وقاسى الالوف ايضا ذل الإحتجاز على حدود دول رافضة لوجودهم وحتى لعبورهم اراضيها. واذ تصرفت المستشارة الالمانية ميركل بحزم مع حلفائها في الاتحاد الاوروبي بغية تقاسم الآلاف من هؤلاء المهاجرين ، فقد حملت الكارثة رؤساء دول اوروبية عدة ، بينها فرنسا واسبانيا وايطاليا والى حد ما رئيس وزراء بريطانيا ، الى إعادة النظر بسياستها المتّبعة حيال سوريا ولاسيما لجهة القول بأن لا دور للرئيس الاسد في مستقبل بلاده.
اذا تطورت ردود فعل دول اوروبا المعانية من تدفق اللاجئين السوريين وغيرهم الى اعتماد مواقف معلنة قائمة على اساس ان "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية هي المسؤولة عن تهجير مواطني سوريا والعراق وليبيا وغيرها الى اوروبا ، فإن سياسة دولها في المستقبل تجاه سوريا ستتميّز بمرونة اكثر وبالتالي يصبح التفاوض مع حكومة الرئيس الاسد امراً مقبولاً وربما مطلوباً ودافعاً فاعلاً لإستعجال انعقاد مؤتمر جنيف – 3.
غير ان سؤالاً مفتاحياً يطرح نفسه بعد كل هذه التطورات : ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة ؟ هل تتأثر بموقف حليفاتها الاوروبيات فتليّن موقفها من حكومة الاسد وتضغط على حلفائها الإقليميين ، ولاسيما تركيا ، لوقف دعم تنظيمات "داعش" و"النصرة" وبالتالي مباشرة مفاوضات جدّية لتسوية النزاع الدموي في سوريا سياسياً في جنيف-3 او غيره ؟ ام تراها تتأثر بموقف "اسرائيل" المعادي لإيران ولقوى المقاومة العربية في فلسطين ولبنان ، فتستجيب الى تحريض منظمة "ايباك" والمعارضة الجمهورية في الكونغرس ، الداعيتين للتمسك بمخططها القديم-الجديد في مواجهة إيران وقوى المقاومة العربية وبالتالي التشدّد مع روسيا ، نصيرة إيران والداعمة الرئيسة لسوريا في حربها ضد الإرهاب ؟
هامش المناورة امام اوباما محدود . صحيح انه سيتقوّى كثيراً بنجاة الإتفاق النووي من براثن معارضيه الجمهوريين في الكونغرس ، إلاّ انه سيبقى مضطراً الى مراعاة مصالح حزبه الديمقراطي الذي يواجه استحقاقين مهمين : الإنتخابات التشريعية القادمة ، وانتخابات الرئاسة في العام المقبل . هذان الإستحقاقان يمليان عليه مراعاة قوى اليمين المحافظ واصدقاء "اسرائيل" في الكونغرس وبين جمهور الناخبين في آن .
في هذه الاثناء ، يتجدد الصراع بين واشنطن وموسكو ببطء لكن بثبات ، وتجد روسيا ، كما ايران ، نفسيهما مضطرتين الى تصعيد دعمهما السياسي والعسكري لسوريا لتمكينها من مواجهة "داعش" و"النصرة" وامثالهما من التنظيمات التي باتت ادوات ساخنة في حرب باردة قابلة للتصعيد...