نشرت في جريدة "البناء" والقدس العربي"
تاريخ 31/8/2015
سلطة العجز إنهارت...
ليكن الحل بالعبور الى الإنتخابات
د. عصام نعمان
عبّر اللبنانيون على مدى اسابيع بحناجرهم، كما بأقدامهم ، عن ارادة وطنية جامعة. اجتاحوا بحشودهم الشوارع والساحات . جسّدوا توافقاً وطنياً نادراً ضد شبكةٍ حاكمة متهالكة. أطلقوا حكماً قاطعاً بإزاحتها.
سلطة العجز كانت انهارت بإفتضاح عجزها عن إزالة تلال النفايات من شوارع المدن والقرى على امتداد البلاد. بدا كأنها تحوّلت بدورها جزءاً باهتاً من تلك النفايات. مع ذلك تحصّنت في سراياها ومقارها وسوّرتها بأسلاك شائكة ثم بجدار عالٍ من الإسمنت ، سرعان ما اطلقت عليه الجماهير ، بحق ، اسم جدار العار.
بقدْر ما بدت الشبكة الحاكمة عاطلة من العمل وبلا مسوّغ وجود ، بدّت الجماهير الهادرة ، بادىء الامر ، متخبطة في بحر من المشاعر والشعارات والمطالب. التخبط دام اياماً الى ان انضمت الى الحشود مجاميع من كوادر احزابٍ وتنظيمات بأسماء ولافتات غير حزبية وبشعارات شعبية لافتة : "بدنا نحاسب" ، "حلّوا عنّا" ، "شباب ضد النظام " الخ.
سبقت وواكبت تحركات الجماهير مقالات ونداءات اطلقها قادة رأي ومثقفون مناضلون مجرّبون صوّبت حراك المتظاهرين ووجّهت جهودهم وجهةَ اصلاحاتٍ سياسية مستحقة. ذلك ادى الى فرزٍ ملحوظ في الشارع : هيئات "المجتمع المدني"، وفي مقدمها الإئتلاف الابرز " طلعت ريحتكم" (ريحة اهل السلطة بطبيعة الحال) شدّدت على الطابع الإجتماعي لحراكها وحذّرت من تسييسه بمطالبةِ من يرغب في دعمها من المسيّسين بأن ينضموا الى حشودها على شروطها وعدم إطلاق شعارات سياسية. المجموعات المسيّسة ذات البرامج المتكاملة سايرت هيئات "المجتمع المدني" بالتركيز على شعارات إسقاط الحاكمين الفاسدين ومحاسبة المرتكبين منهم. غير انها اخذت ، لاحقاً ، منحى الإحتشاد في امكنة بعيدة نسبياً عن أمكنة احتشاد "منافسيها".
لعل المخرج الآمن من هذا الإشكال يكون بالتفاهم الذاتي اوالمشترك على برمجة الحراك الشعبي في مرحلتين :
الاولى تتركّز على شعارات فضح الشبكة الحاكمة وهدم "منطقها" السياسي و"ثقافتها" التقليدية وعجزها المدوّي في حل مشاكل المجتمع والدولة، وصولاً الى العمل على إزاحتها ، بالحسنى او بالعصيان ، عن مواقعها...
الثانية تتركّز على الأهداف الإصلاحية المرتجاة ، ولاسيما الاساسية منها.
إن الوسيلة المراد إعتمادها في هذا السياق ترتقي الى مستوى الغاية . فتحقيق الإصلاحات الاساسية المرتجاة لن يكون بالعنف: لا بإنقلاب عسكري ولا بحرب اهلية بل من خلال انتخابات ديمقراطية حرة. ولعل من المفيد التذكير بأن نضال الحركة الوطنية اللبنانية كان أثمر ، جزئياً، تضمين وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـِ "إتفاق الطائف" للعام 1989 بعضاً من الإصلاحات السياسية التي طالما طالبت وناضلت من اجلها ، وان حكومة الرئيس سليم الحص تمكّنت بدورها العام 1990 من إدخالها في صلب الدستور.
أهم هذه الإصلاحات تنزَّل في المادة 22 من الدستور القائلة : "مع انتخاب اول مجلس نيابي على اساس وطني لاطائفي ، يُستحدث مجلس للشيوخ لتمثيل العائلات الروحية" ، اي الطوائف ، كما تنزَّل في المادة 95 من الدستور التي تنصّ على إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية. أليس حرّياً باللبنانيين الذين قاسوا طويلاً من الطائفية والمحاصصة ان يستعيضوا في تظاهراتهم عن الشعار السطحي المبهم "الشعب يريد إسقاط النظام" بشعار إصلاحي مفتاحي " الشعب يريد تطبيق الدستور"، ولاسيما المادتين 22 و 95 منه ؟
كيف السبيل الى تحقيق الإصلاحات الدستورية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية المرتجاة ؟
بتجديد القيادات السياسية والإجتماعية من خلال انتخابات ديمقراطية حرة تُتاح فيها الفرصة لكل اللبنانيين ، مقيمينَ ومغتربين ، المشاركة فيها ناخبينَ ومنتخبين. وقد بات ثابتاًَ من إستقراء تجارب امم عدّة ، كما بات مؤكداً بإستطلاعات الرأي ، ان اكثرية اللبنانيين تعتبر نظام التمثيل النسبي في دائرة واحدة تشمل البلاد برمتها هو نظام الإنتخابات الافضل والافعل ولا سيما لجهة تعميم الديمقراطية وتعميقها ، وتجديد القيادات السياسية ، وبالتالي تحقيق الإصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية المرتجاة.
إن إجراء الإنتخابات وفق نظام التمثيل النسبي هو المطلب الجامع المشترك للبنانيين في هذه المرحلة ، ويقتضي تالياً ان يكون المطلب الرئيس للحراك الشعبي الواسع الذي يلف لبنان في هذه الآونة . نعم ، يجب عدم الإنخداع بأي تسوية ظرفية ، سياسية او اقتصادية او اجتماعية ، تحاول الشبكة الحاكمة إمرارها لتنفيس الحراك الشعبي والإنتفاضة الشعبية ضد سلطة الإحتكار والمحاصصة والفساد، والإصرار على ان تكون الإنتخابات النهج الديمقراطي المعتمد لتحقيق المطالب الإصلاحية وتقرير المصير.
لتحقيق هذا المطلب الوطني الإستراتيجي ، يقتضي تشديد الضغط على الشبكة الحاكمة وسلطتها الهرمة بكل الوسائل المشروعة ، بما فيها العصيان المدني ، من اجل حملها على التسليم بإجراء انتخابات ديمقراطية وفق نظام التمثيل النسبي. واذا لم يبادر مجلس النواب ، بالسرعة الممكنة ، الى تشريع قانون الإنتخابات الديمقراطي المنشود ، فلا مناص عندئذٍ من قيام القوى الوطنية الحية صانعة الحراك والإنتفاضة الشعبيين بتكوين وإعلان مؤتمر وطني للحوار والقرار يمثل مختلف شرائح المجتمع اللبناني.
يصدر عن المؤتمر ، في هذه الظروف الإستثنائية التي تجيز اتخاذ قرارات استثنائية ، نظامٌ انتخابي على اساس التمثيل النسبي في دائرة وطنية واحدة ، وتنبثق منه حكومة مؤقتة لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة وفق احكامه فيكون ثمرتها اول برلمان شرعي في تاريخ الجمهورية . ومن الطبيعي ان يبادر البرلمان الجديد الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية ، وان يصار تالياً الى تأليف حكومة وطنية جامعة تتولى تحقيق الإصلاحات الاساسية المرتجاة وفي مقدمها تلك المنصوص عليها في المادتين 22 و 95 من الدستور.
ثمة فرصة نادرة امام اللبنانيين الأحياء للخروج من الازمة المزمنة بتحقيق تسوية تاريخية قوامها الحرية والديمقراطية والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية والإبداع ، فهل يبادرون ؟