خياران حاسمان :
الإنتخابات او إسقاط سلطة العجز
د. عصام نعمان
لنعترف ، بلا مكابرة ولا مخاتلة : نحن في محنةٍ خانقة ، عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق . عنوان المحنة سلطة عاجزة بكل المعايير . عاجزة عن التفكير والتدبير والتقرير والتنفيذ . فإلى متى التخدير والتبرير وإهدار الوقت والفرص والطاقات وتعطيل الإستحقاقات وتعميق الآلام والمعاناة ؟
غالبية اللبنانيين الساحقة ساخطة ، ثائرة ، مجمعة على إدانة شبكة حاكمة تدير بالمحاصصة نظاماً فاسداً ، متعفّناً ومتهاوياً ، فالى متى يحاول المكابرون إحياء العظام وهي رميم ؟
فليعلنها المواطنون المتضررون ، اذاً ، بالفم الملآن : إسقاط سلطة العجز استحقاق شعبي ودستوري في آن ، وقد آن الآوان .
بعض المكابرين يتذرع بأحداث وتطورات تجري في الجوار والمنطقة ما يتطلّب الإنتظار والتأني للإحاطة بنتائجها فيُبنى على الشيء مقتضاه . فهل المكابرون واثقون من ان النتيجة المتوخاه ستكون لصالحهم ؟ وهل تأتي النتيجة-الدواء قبل ان يفارق العليل؟
بعضهم الآخر يثير مسألة الشرعية وضرورة التقيّد بأصولها وقواعدها كي لا يأتي التغيير المنشود مشوباً بعيب مخالفة الدستور ، فيُطعن به ويجرّ الطعن مشاكل وذيولاً . فهل المعترضون شرعيون أصلاً وقد احتلوا سلطات ومراكز ومددّوا ولايتها لأنفسهم بأنفسهم ؟ هل التمديد لمجلس النواب المنتهية ولايته وصلاحيتـه تدبير شرعي ؟ وهل يجوز للوكيل (النائب) ان يمدد صلاحية وكالته الى ما شاء من دون رضى الموكل (الناخب)؟ وهل يجتمع مجلس النواب اصلاً لينهض بمسؤولياته وهو الذي يعطّل نفسه ، حتى في "تشريع الضرورة"، بقرار معلن من نوابٍ ينادون بلاشرعية التشريع أثناء شغور رئاسة الجمهورية ؟
الى متى تمدّد سلطة العجز لنفسها في جميع المؤسسات والمرافق العامة ؟ هل اضحى العجز في مفهوم الشبكة الحاكمة طريقة حياة ؟
لا غلوّ في الجهر بأعلى الأصوات بأن إسقاط سلطة العجز بات استحقاقاً شعبياً ودستورياً في آن ، وان الوفاء به يكون بالشارع وبالشعب او بغيره من التدابير الإستثنائية التي لا تتعارض مع احكام الدستور الاساسية .
هو استحقاق شعبي بدلالة "العاميات" المنتفضة في شتى مناطق البلاد إحتجاجاً على سلطةٍ لا تتورع ، بعد 17 عاماً من الفشل الذريع في معالجة مشكلة النفايات، عن اعتماد "حلول" لها من طراز المزيد من الشيء نفسه مع الحرص، طبعاً ، على تقاسم الارباح وفق صيغةٍ للمحاصصة مقدسة .
وهو استحقاق شعبي بدلالة عودة "التيار الوطني الحر" ، صاحب ثاني اكبر كتلة برلمانية لها نواب منتخبون في اربع من محافظات لبنان الخمس الاساسية ، الى الإنتفاض ضد سلطة العجز والمحاصصة طلباً للشراكة الوطنية الصحيحة في الحكم والادارة والبرلمان ومقاومة "اسرائيل" والإرهاب.
وهو استحقاق شعبي سيتحوّل ، بدعمٍ من قوى المقاومة وانصارها ، الى "تسونامي" جارفة للفساد والمفسدين ، وخصوصاً اذا ما جرى اعتماد مطالب وطنية واجتماعية ، وما اكثرها ، في التحركات والتظاهرات والإعتصامات .
وهو استحقاق دستوري لأنه يستلهم ارادة الشعب وروح الدستور واحكامه الاساسية حتى لو اضطر الناهضون به من ابناء الشعب وقواه الوطنية الى التمرد والعصيان. ذلك ان الدستور ينص في احكامه الاساسية على ان "لا شرعيـة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"، والحال ان الشبكة الحاكمة في جميع عهودهـا مارست ، بآليات الطائفية والمحاصصة والفساد، سياسات وسلوكيات تناقض ميثاق العيش المشترك ما حوّل البلاد والعباد فريسة العصبيات المذهبية والفئوية ومسرحاً لتنظيمات الإرهاب والعنف الاعمى.
وهو استحقاق دستوري لأن الشبكة الحاكمة ، بتنافسها المحموم على المكاسب والمغانم والأسلاب ، عطّلت مؤسسات نظامٍ يُفترض ان يكون قائماً بموجب الفقرة"هـ" من الاحكام الاساسية للدستور ، على "مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها". والحال ان لا سلطـات قائمة ، وإن قامت شكلاً فهي شاغرة فعلاً او معطّلة : رئاسة الجمهورية شاغرة منذ 450 يوماً ومجلس النواب عاجز عن ملء شغورها بشتى الاعذار، بل هو عاجز عن التشريع بفعل شتى الإجتهادات والتخريجات، ومجلس الوزراء عاجز عن التقرير بفعل تضارب المصالح والإختلاف على تقاسم الحصص والمغانم ، والمجلس الدستوري معطَّل ومهمَل ، والقضاء بطيء وعرضة لشتى الضغوط ، والمرافق العامة معطَّلة او مقصّرِة في توفير خدماتها ، فلا كهرباء ، ولا معالجة لتراكم النفايات ، ولا اتصالات متوافرة في الزمان والمكان ، ولا أمن مستتباً في كل المناطق والمرافق، ولا حدود للصفقات والإرتكابات ، ولا رقابة ولا محاسبة ، بل لا موازنة منذ عشر سنوات...
بإختصار ، النظام متهريء ومتهالك وآيل الى السقوط ، واللبنانيون بمختلف مذاهبهم ومشاربهم كفروا بالشبكة الحاكمة وباتوا اكثر قابلية للتمرد والعصيان.
رغم مشروعية اسقاط سلطة العجز وضرورته الماثلة ، ثمة خيارٌ بديل ألطف وقعاً يمكن اعتماده اذا قدّم اهل السلطة الحكمةَ والمصلحة الوطنية على المكابرة والمصالح الشخصية . إنه خيار إجراء الإنتخابات بالسرعة الممكنة بعد إقرار معجّل التنفيذ لمشروع قانون الإنتخابات على اساس النسبية الذي احالته حكومة نجيب ميقاتي على مجلس النواب منذ اكثر من ثلاث سنوات.
تجري الإنتخابات ، فيقوم برلمان جديد، ينتخب رئيس الجمهورية الجديد ، وتنبثق منه حكومة جديدة قادرة على اتخاذ قرارات وإجراء اصلاحات وتعيينات مستحقة واستثنائية.
اذا رفضت الشبكة الحاكمة إجراء الإنتخابات لأي سبب من الأسباب ، يكون الشعب وقواه الوطنية والإجتماعية الحية في حلٍّ من احترام سلطة عاجزة وممعنة في إلتزام سياسة التأجيل والتسويف والتمديد ومخالفة الدستور والقانون ، ويكون إسقاطها بالتمرد والعصيان مشروعاً ومتوافقاً مع روح الدستور واحكامه الاساسية ذات الصلة ، كما يكون بمأمن من تدخلاتٍ ميدانية للقوى الخارجية بسبب إنشغالها بأزماتها وحروبها على مستوى المنطقة برمتها.
مع إسقاط سلطة العجز يعلن صانعو الحدث قيام مؤتمر وطني للحوار والقرار يترأسه ، اذا اراد ، رئيس مجلس النواب ، ويكون مؤلفاً من اعضاء البرلمان وأغلبية وازنة من ممثلي القوى الوطنية الحية لمختلف الشرائح الاجتماعية في البلاد.
في ظروفٍ إستثنائية كهذه ، لا بد من اتخاذ تدابير استثنائية . لذلك يقرّ المؤتمر الوطني للحوار والقرار قانوناً ديمقراطياً للإنتخابات على اساس التمثيل النسبي في دائرة واحدة تشمل البلاد برمتها وذلك تطبيقاً لروح المادة 27 من الدستور ، وتنبثق من البرلمان الجديد المنتخب ذي الطابع التأسيسي حكومة وطنية جامعة تكون مهمتها تطبيق احكام الدستور ولاسيما المادة 22 التي تقضي بأنه"مع انتخاب اول مجلس نواب على اساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية" ، وتطبيق المادة 95 التي تقضي بإتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية. كذلك يكون في وسعها اجراء حزمة من الإصلاحات السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، والتعيينات الادارية والامنية المستحقة.
لا يجوز بعد كل ما جرى ويجري من انحرافات وارتكابات وسرقات ومفاسد واستبداد وإنتهاك للحريات وحقوق الإنسان ان نعالج الازمات المزمنة المتناسلة بمزيد من التسويات والمحاصصات والصفقات الشائنة.
فلنحطم قيود الطائفية البغيضة ولنهدم تقاليد المححاصة بلا هوادة ، ولنشيّد ركائز الدولة المدنية الديمقراطية بإرادة حرة وصبرٍ وتصميم ، مرةً والى الأبد.