هل يمكن حكم لبنان بلا وصاية؟
د. عصام نعمان
ثمة مقولة رائجة في اوساط المجتمع السياسي اللبناني مفادها ان اللبنانيين عاجزون عن حكم انفسهم وانه يلزمهم دائماً سلطة وصاية خارجية لتمكينهم من ذلك. لعل أسطع شاهد على صحة هذه المقولة حال العجز عن التقرير التي آلت اليها حكومة تمام سلام الإئتلافية بعد إنكشاف فضيحة النفايات ودور اركان الشبكة الحاكمة فيها.
قبل نحو 15 سنة جَهَرَ رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي بهذه المقولة، بل الحقيقة ، واحدثت صراحته ضجة سياسية واسعة . غير ان ممارسات السياسيين في البلاد أكدت صحة المقولة لدرجة حملت البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير على التساؤل ، في معرض نقد تلك الممارسات ، حول قدرة اللبنانيين على حكم انفسهم بل جدّية رغبتهم في ذلك.
الحقيقة ان نظرةً مدقِقة الى تاريخ لبنان السياسي توفّر للدارس شواهد عدّة على صحة تلك المقولة . ففي متصرفية جبل لبنان ذات الحكم الذاتي من العام 1861 لغاية إنهيار السلطنة العثمانية العام 1918 حَكَم اللبنانيون أنفسهم بصعوبة تحت وصاية مباشرة من متصرف عثماني مرتبط مباشرةً بالباب العالي.
بعد إقامة دولة لبنان الكبير العام 1920 بقرار من المفوض السامي الفرنسي الجنرال غورو ، ادار اللبنانيون شؤونهم الداخلية تحت وصاية سلطة الإنتداب الى ان احتلت جيوش المانيا النازية فرنسا في الحرب العالمية الثانية فاضطرت سلطات "فرنسا الحرة" بقيادة الجنرال ديغول ، تحت الضغط الشعبي (المدعوم من بريطانيا منافسة فرنسا ووريثة نفوذها في المشرق العربي)، الى الإقرار بإستقلال لبنان العام 1943.
حَكَمَ "رجالات الإستقلال" لبنان بصعوبة بالغة تحت وصاية مستترة بريطانية وفرنسية الى ان تهاوى حكم الرئيس كميل شمعون ، الموالي لحلف بغداد و"مبدأ ايزنهاور" ، بفعل الإنتفاضة الشعبية الداخلية المتعاطفة مع وحدة مصر وسوريا في اطار الجمهورية العربية المتحدة العام 1958.
بعد هذا الحدث التاريخي ، تكيّف الحكم اللبناني في مختلف عهوده مع وصاية ناعمة مارستها القاهرة الناصرية لغاية اواخر العام 1961 ومن ثم مارستها دمشق، مداورةً ، في ظل حكم حزب البعث لغاية اتفاق الوفاق الوطني في الطائف العام 1989 وبعده ، مباشرةً ، بالتفاهم مع السعودية لغاية اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005 . منذ ذلك التاريخ ، تعثّر الحكم اللبناني بالتزامن مع خروج القوات السورية من لبنان وإنحسار وصاية دمشق المباشرة وصعود نفوذ السعودية التي باتت مناهضة لسياسة سوريا المندرجة في محور المقاومة مع ايران.
حاولت الولايات المتحدة و"اسرائيل" ، بإغتيال الحريري ومن ثم بالحرب العدوانية على لبنان العام 2006 ، إنهاء المقاومة اللبنانية (حزب الله) لكن من دون جدوى. غير ان حملتهما المتواصلة على قوى المقاومة وحلفائها ادت الى إضطراب الحكم في لبنان وتعثره وبالتالي عجز حكوماته الإئتلافية المتعاقبة عن الوفاء بمتطلبات الشعب والبلاد في مختلف الميادين. ومع فضيحة النفايات الاخيرة اتضح بشكل ساطع ان الشبكة الحاكمة بمختلف اركانها وتلاوينها قد وصلت الى حالٍ مزرية من العجز عن اتخاذ القرار ما ادى الى انحدار البلاد تالياً الى حال من التسيّب والفوضى والإضطراب الامني والضائقة المعيشية المتفاقمة.
رافق هذه الحال ، وبسببٍ منها ، بزوغُ ظاهرات من التمرد الشعبي على القيادات التقليدية وانفجار إتهامات بتواطئها على صحة الناس والبيئة خصوصاً بفعل سؤ ادارتها لأزمة النفايات وما تكشفت عنه من فساد مالي واداري. فالتمرد على مشروع طمر نفايات بيروت في سبلين ثم في كسارات ضهر البيدر تصاعد في منطقة اقليم الخروب ومنطقة عين داره الى مستوى يقارب تشكّل عاميّة عابرة للطوائف ومعادية لأركان الشبكة الحاكمة. الامر نفسه حدث في قضاءي المتن الشمالي وكسروان حيث رفض الناس محاولات بعض القوى السياسية طمر النفايات في كسارات واودية جبل لبنان الشمالي. ويبدو ان شيئاً من هذا القبيل حدث في عكار ، شمال لبنان ، في وجه قوى سياسية تقليدية حاولت إمرار مسألة طمر نفايات بيروت هناك بدعوى التعاطف المذهبي.
مع ترنّح الحكومة وانكشاف عجزها وعجز اركان الشبكة الحاكمة وغياب سلطة وصاية قادرة على مساندتها لتغطية العجز المتفاقم ، شعرت القوى الوطنية والإجتماعية الحية بأن ثمة فرصة نادرة لتعبئة الناس في اطار جمهور عابر للطوائف وقادر على ممارسة ضغط طويل النَفَس على الشبكة الحاكمة بغية حملها على وقف مسلسل التمديد للعجز المتمادي والمتمثّل بإعادة إنتاج نفسها وتدويم تحكّمها بالبلاد والعباد.
ان نجاح القوى الوطنية والإجتماعية الحية في تكوين جمهور عابر للطوائف وقادر على ممارسة ضغط شعبي شديد ومتواصل على اهل النظام سيحمل هؤلاء إضطراراً على الرضوخ والإستجابة بالتضحية ببعض الإمتيازات املاً بالإحتفاظ ببعضها الآخر.
لعل مسار تراجع الشبكة الحاكمة يبدأ بقبولها اقتراح زعيم القوميين الإجتماعيين النائب اسعد حردان الداعي الى قيام رئيس مجلس النواب نبيه بري بالدعوة الى مؤتمر طائف وطني للحوار يشارك فيه ممثلون لجميع القوى السياسية، ولاسيما تلك غير الممثلة في البرلمان الممددة ولايته ، من اجل التفاهم على اعتماد قانون ديمقراطي لإنتخاب اعضاء مجلس النواب ، تكون البلاد كلها بموجبه دائرة واحدة يجري فيها ، على اساس نظام التمثيل النسبي ، انتخاب النواب من بين قوائم مرشحين متنافسة ذات برامج سياسية واضحة.
البرلمان الجديد ، المنتخب على اساس النسبية ، سيتمتع بالتأكيد بطابع تأسيسي وستكون له الاهلية الشرعية لإنتخاب رئيس الجمهورية وإنتاج حكومة وطنية قادرة على إجراء التعيينات الامنية والإصلاحات الدستورية والسياسية المستحقة.
إن الظروف الإستثنائية التي تعانيها البلاد تتطلب اتخاذ قرارات استثنائية لإخراجها من المحنة الى الحرية والديمقراطية وحكم القانون والتنمية والإستقرار.
آن الآوان لتدشين مرحلة جديدة في حكم لبنان بلا سلطة وصاية خارجية من ايِّ نوع كان . ذلك ان الدول التي كانت تفرض وصايتها على لبنان اصبحت منشغلة بنفسها في حروب داخلية او في حروب مع دول مجاورة وبالتالي غير قادرة ، وربما غير راغبة ، في فرضها الآن.