أيُّ إسلام يمنع اميركا من السيطرة على العالم ؟
د. عصام نعمان
لصموئيل هانتينغتون نظرية ونبؤة .
النظرية هي صِدام الحضارات . النبؤة هي عجز الغرب ، بفضل الحضارة الإسلامية ، عن السيطرة على العالم .
كان هانتينغتون يقول إن الفروق بين الحضارات ليست فروقاً حقيقية فحسب بل فروق اساسية ايضاً. فالحضارات تتمايز الواحدة من الاخرى بالتاريخ واللغة والثقافة ، والأهم بالدين . ولأن الإسلام والمسلمين يشكّلون حضارةً واحدة ، فقد إستشف هانتينغتون من تاريخ صراعات المسلمين مع جيرانهم ومنافسيهم خطراً مقيماً على الغرب .
كثيرون فسّروا نظرية صِدام الحضارات بأنها دعوة عنصرية لشن الحرب على الإسلام والمسلمين . فما دام تاريخ الإسلام خلال اربعة عشر قرناً يشكّل، حسب نظرية هانتينغتون ، خطراً على أية حضارة واجهها ، خاصةً المسيحية ، فإن المهدَدَين بهذا الخطر مدعوون الى تداركه بشن حروب إستباقية على المسلمين.
هانتينغتون غيّر رأيه لاحقاً إذ إتّهم اميركا بأنها أوجدت بؤرةً كبيرة لنشر صِدام الحضارات بين الإسلام والغرب بشنها الحرب على افغانستان والعراق ، وأطلق نبؤةً جديدة مفادها أن الاميركيين حققوا النصر على نظام صدام حسين ، لكنهم لم ينجحوا ابداً في تحقيق النصر على الشعب العراقي .
في حديث كان أدلى به لمجلة " لوبوان " الفرنسية ، وصف هانتينغتون الحرب الاميركية على العراق بأنها " فعلة سيئة للغاية " ، وحذّر من ان الولايات المتحدة ستكون اول من سيعـاني من تداعيات الحرب على كلٍ من افغانستان والعراق .
يقول هانتينغتون إنه توقع ان تواجه بلاده حرباً من الشعب العراقي بعد هزيمة نظام صدام حسين ، مشيراً الى ان هذه الحرب بدأت فعلاً لحظةَ سقوط الرئيس العراقي ، و"على وجه الدقة مع بدء عملية عصيان اهل السنّة في مدينة الفلوجة " .
لعل العنصر الجديد البارز بل الابرز والاكثر إثارة للجدل في نبؤة هانتينغتون الدور الغالب للايديولوجيا في صراع الحضارات بالمقارنة مع التكنولوجيا . ففي معرض تعداد الاسباب التي جعلته يعارض الحرب الاميركية على العراق ، أكد الفيلسوف الاميركي ان الغرب لن يستطيع ابدا السيطرة على العالم كما حدث عقب الحرب العالمية الاولى في الربع الاول من القرن الماضي . هانتينغتون برر ذلك بأن الحضارة الإسلامية ، على وجه الخصوص ، صارت تشكّل تكتلا ايديولوجياً سيجبر الغرب على التخلي عن أية طموحات في تعميم فكره وقيمه على العالم .
اكثر من ذلك ، طالب هانتينغتون الغرب بالإعتراف بأن الحضارات الكبرى، مثل حضارات العالم العربي والإسلامي والصين ، تتقدم على الساحة الدولية وفقاً لإيقاعاتها الخاصة ومن دون ان يكون لديها قيم الغرب وعاداته .
مع نبؤته هذه ، توقّفت العولمة عن أن تكون الأمركة ، كما ينهار إدعاء فرانسيس فوكوياما بـ " نهاية التاريخ " وإنتصار ليبرالية الغرب الأميركي وحداثته الكاسحة . فقيم الغرب وعاداته واساليبه في التفكير والتدبير ليست شرطاً للتقدم والانتصار . ثمة دور للايديولوجيا ، على ما يبدو ، ما زال فاعلا وغالباً بالمقارنة مع التكنولوجيا التي كان مفكرو الغرب الأميركي قد بكّروا في إعلان انتصارها – السابق لأوانه – على الايدولوجيا . هانتينغتون خرج من تأملاته في الحرب الأميركية على العراق بإستنتاج مفاده أن صيرورة الحضارة الإسلامية تكتلاً ايديولوجياً سيجبر الغرب ، في قابل الأيام ، على التخلي عن طموحاته في تعميم فكره وقيمه وتقاليده على العالم .
هانتينغتون لا تعوزه الامثلة لإثبات نبؤته . إنها حضارات العالم العربي والإسلامي والصين . المقصود بهذه الحضارات ، باستثناء الصين ، الحضارة الإسلامية الشاملة التي تنطوي على جملة حضارات او ثقافات : العربية والفارسية والتركية والهندية والملاياوية والاندونيسية . ولعل الفيلسوف الأميركي استوقفته إنجازات ماليزيا الحضارية في ميادين عدة ، كما اخذ بعين الاعتبار عودة ايران الى النهوض في ظل حكم إسلامي له إيقاعاته المتميزة عن الغرب . كما ان تركيا التي كانت سلكت طريق الحداثة الاوروبية في ظل نظام مصطفى كمال اتاتورك العلماني عادت الى مصالحة اصالتها الإسلامية في ظل حكم حزب إسلامي متجدد – العدالة والتنمية - من دون التنكر لحداثتها ورغبتها في الانتماء السياسي للاتحاد الاوروبي .
ثمة امر آخر أعاد هانتينغتون النظر فيه . فقد كان يتهم الإسلام دائماً بأن له " حدوداً دموية " ، مشيرً بذلك الى النزاعات مع الصرب الأرثوذكس في البلقان ومع الهندوس في الهند ومع اليهود في "اسرائيل" ومع الكاثوليك في الفيليبين ، بمعنى ان الإسلام والمسلمين كانوا دائماً البادئين في شن الحرب على جيرانهم ومنافسيهم واعدائهم . غير ان الفيلسوف الأميركي اصبح بعدئذٍ يلوم بلاده في إستفزاز الإسلام والمسلمين وبشن الحروب عليهم ، بل هو دان أميركا بأنها "أوجدت بؤرة كبيرة لنشر صِدام الحضـارات بيـن الإسلام والغرب بشنها الحرب على أفغانستان والعراق" (لكنه نسي او تناسى ان اليهود الصهاينة ، بدعم من اميركا ، شنوا حروباً على العرب الفلسطينيين) .
يتأسس على مسألة إتهام أميركا باستفزاز الإسلام والمسلمين وشن الحرب عليهم حقيقة مفادها أن ما يقوم به المسلمون ، أفراداً وجماعات ، من أعمال معادية للغرب عموماً ولأميركا خصوصاً إنما هو من قبيل رد الفعل والدفاع عن النفس .
ليس المقصود بهذا الإستنتاج تبرير هجمات 11 ايلول / سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن ، إنما تسجيل فكرة محددة هي أن هذه الهجمات وغيرها تندرج في خانة ردود الفعل على هجمات الغرب الأسبق منها زمنياً والأقوى فعاليةً والأسوأ نيّةً التي أصابت المسلمين في مناطق شتى من العالم وتطورت لاحقاً لتتخذ شكل حروب إستباقية صريحة القصد والغرض وشديدة الوطأة والأثـر على بلدان إسلامية عدّة ، بعضها بالوكالة كما في حرب "اسرائيل" على الفلسطينيين ، وبعضها الآخر بالأصالة كما في حرب اميركا على افغانستان والعراق .
لو لم تتخذ هجمات الغرب – الغرب الاميركي تحديداً – طابعاً ثقافياً وإيديولوجياً متقدماً على طابعها الاقتصادي النفعي لما كنا نشاهد اليوم ردة الفعل الغاضبة الشاملة على اميركا خاصة وبعض اوروبا عامة في أعماق العالم العربي والإسلامي بل في أعماق أوروبا وأميركا ايضا حيث المسلمون جاليات وافدة تعتمد في تحصيل لقمة عيشها على اقتصادات دول غير إسلامية . إن شعور المسلمين في دول اوروبا واميركا ، ناهيـك بالمسلمين في أوطانهم الأصلية المستباحة ، بأنهم عرضة لهجمات تستهدفهم في كرامتهم الإنسانية ودينهم وثقافتهم وقيمهم وسلوكهم وتقاليدهم الاجتماعية ، دفعهم ويدفعهم الى التكتل والتمسك بدينهم وثقافتهم وتراثهم في قلب الحداثة الغربية التي ينهلون منها ويفيدون من إنجازاتها . كل ذلك أدى ويؤدي الى جعل الإسلام والمسلمين في اربع جهات الأرض حضارة تشكّل ، على حد قول هانتينغتون ، " تكتلاً ايديولوجياً سيجبر الغرب على التخلي عن أي طموحات في تعميم فكره وقيمه على العالم ".
بات صِدام الحضارات ، بحسب إتهام هانتينغتون لبلاده ، بعد حربها على أفغانستان والعراق ، " بؤرةً كبيرة " لا يقتصر إنتشاره على هذين البلدين بل يلتهب ايضا في اعماق اوروبا واميركا . صحيفة " انترناشيونال هيرالد تريبيون " كانت نشرت تحقيقاً تحت عنوان " الدعوة الى الجهاد تتصاعد في شوارع اوروبا " ، تتضح منه دعوة حارة يستجيب لها المسلمون في " شوارع الطبقة العاملة في المدن الصناعية القديمة مثل كراولي ولوتن وبرنينغهام ومانشستر في بريطانيا وشتى معاقل الجاليات العربية في المانيا وفرنسا وسويسرا وأنحاء اخرى من أوروبا". انها حالة غضب وسخط عارمة ضد اميركا ، إذ نسبت الصحيفة الأميركية العالمية ذاتها الى احد مسؤولي مكافحة الإرهاب في أوروبا قوله : " لقد عززت الحرب على العراق بصورة دراماتيكية جهود التعبئة لدى الناشطين والمتطرفين الذين اتخذوا المساجد مسرحاً لأنشطتهم " . كما نسبت الى احد زعائهم في منطقة سلاو في لندن ، الشيخ عمر بكري محمد ، قوله مخاطباً زعماء الغرب : " بإمكانكم ان تقتلوا بن لادن ، لكن ليس بامكانكم ابداً قتل الظاهرة ... لا يمكنكم تحطيم الإسلام".
في الصحيفة ذاتها عنوان آخر عن نقد لاذع كان وجّهه 52 سفيراً ومسؤولاً ديبلوماسياً رفيعاً في بريطانيا الى رئيس الحكومة آنذاك طوني بلير في مذكرة نددوا فيها بسياسة بريطانيا واميركا في الشرق الاوسط . انها ، بمعنى من المعاني ، صدى غضبة العرب والمسلمين في بلدانهم واخوانهم في دول الغرب ، وردة فعل عقلانية مدّوية من طرف النخبة البريطانية المفكرة والجادة على دعم بلير غير المتردد لسياسة ادارة بوش الابن في العراق وموقفها من الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني وإدانة لها وحكم صريح عليها بالفشل المحتوم.
المهم في هذا كله ان الفكرانية ( الانتلجنسيا) الغربية، بشطريها الاوروبي والاميركي ، تحركت اخيراً في وجه هجمة بوش الابن وامثاله اللاحضارية على البلدان الإسلامية التي باتت في رأيهم تهدد الغرب ، سياسياً واقتصادياً وثقافياً ، بعواقب وخيمة . واذا كان إحباط هذه الهجمة يتوقف ، في الدرجة الاولى ، على نجاح المعارضة الداخلية السياسية والثقافية في اميركا واوروبا لسياسات بوش الأبن وامثاله الحمقاء ، فإن ذلك النجاح يبقى مشروطاً بتصعيد الضغط العربي والإسلامي، بطريق المقاومة المدنية والميدانية ، على حكومات الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها لإحباط مخططاتها الشريرة في العراق وسوريا وفلسطين وسائر الدول والمناطق الساخنة في العالم العربي والإسلامي ، ولاسيما بعد لجوئها الى التحالف احياناً مع تنظيمات العنف الأعمى الإسلاموية لمواجهة قوى المقاومة العربية ، المدنية والميدانية.