الإستحقاق الأهم:"إنتخاب" قائد الجيش...
د. عصام نعمان
دشّن لقاء الرابية بين ميشال عون وسمير جعجع و"اعلان النيات" الذي اصدراه مرحلةً جديدة في ازمة لبنان المزمنة. تفسيرات وتعليقات وتوقعات شتّى اعقبت اللقاء – المفاجأة ، لعل اهمها ثلاثة :
* تثقيل وزن المسيحيين عموماً في موازين القوى السياسية والمذهبية المتصارعة في الساحة اللبنانية ، وتوفير مناخ افضل لإستعادتهم مبادرة مفقودة في الصراع السياسي المحتدم.
* ترفيع حظوظ العماد ميشال عون في انتخابات رئاسة الجمهورية الشاغرة منذ اكثر من سنة بإضفاء صفة "الرئيس القوي" عليه (وربما "الرئيس التوافقي" ايضاً) بعد تصالحه مع جعجع وإحتمال انضمام قوى وشخصيات مسيحية اخرى الى مؤيديه .
* توفير فرصة افضل لإعتماد "تشريع الضرورة" في مجلس النواب، ولا سيما لجهة قانون الإنتخابات الجديد ومشروع قانون استعادة الجنسية اللبنانية ، وربما مشاريع قوانين اخرى.
غير ان لقاء عون-جعجع و"اعلان النيات" لا يقدّمان بالضرورة دفعاً محسوساً بإتجاه توافق جدّي بين سائر الأطراف السياسية المعنية على حسم استحقاق رئاسة الجمهورية . كما ان "اعلان النيات" ببنوده الـ 12 ليس اكثر من عناوين تحتاج ، بدورها ، الى توافق بين زعماء التكتلات البرلمانية لترجمتها الى مشاريع قوانين .
ثم ان ردود الفعل السياسية والبرلمانية على لقاء الرابية لا تشير الى "حلحلة" بشأن مسألة التعيينات ، ولاسيما لجهة الإستحقاق الاقرب المتعلق بتعيين خلف لمدير عام قوى الامن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص (الذي اجّل وزير الداخلية تسريحه لمدة سنتين) ، والإستحقاق الأبعد والأكثر تعقيداً المتعلق بتعيين خلف لقائد الجيش العماد جان قهوجي الذي سيشغر موقعه خلال شهر ايلول المقبل. فقد بات واضحاً ان كتلة "تيار المستقبل" برئاسة سعد الحريري تتشبث بموقفها الداعي الى تعيين قائد الجيش بعد انتخاب رئيس الجمهورية كونه ، بحسب الدستور ، القائد الاعلى للقوات المسلحة ، "ومن الطبيعي ان يعطي رأياً بالقائد الجديد"، كما قيل .
بصرف النظر عن دافع عون الى ضرورة التعجيل في اجراءات ملء المراكز الشاغرة في قوى الامن الداخلي والجيش والادارات العامة وفق احكام القوانين النافذة ، وعن دافع الحريري الى إرجاء التعيينات الى ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد ، فإن ثمة حقيقة لا سبيل الى نكرانها او تجاوزها هي اقتراب الحكومة من حال الشلل الكامل مع اعتزام فريق وازن من الوزراء الإعتكاف او عدم توقيع مراسيم يتخذها مجلس الوزراء اذا لم تكن تتضمن ملء شواغر القيادات الامنية . هذا كله في وقتٍ يستمر شلل مجلس النواب بإمتناع فريق كبير من اعضائه عن التشريع بدعوى عدم مشروعية ذلك ، دستورياً وميثاقياً ، في أثناء شغور مركز رئيس الجمهورية.
اذ تزداد ازمة لبنان السياسية تعقيداً بفعل مواقف اصحاب القرار من زعماء التكتلات البرلمانية ومتزعمي الطوائف والمذاهب يتطلع اصحاب النيات الطيبة من المواطنين الشرفاء ، وهم اكثرية الشعب اللبناني ، الى مخرج من هذه الحال البائسة وانعكاساتها الخطيرة على لبنان ، وجوداً وكياناً ومصيراً.
من الضروري ، في سياق البحث عن مخرج وطني ودستوري من مآزق الازمة الراهنة ، التنبيه الى حقيقة ساطعة هي انه لم يبقَ بين مؤسسات الدولة إلاّ اثنتان لبنانيتان حقاً : الجيش ومصرف لبنان المركزي. فاللون والسلوكية الطائفية والمذهبية يدمغان سائر الادارات والمؤسسات العامة بميسمهما النافر والمنفّر ويقلّلان تالياً من مقبوليتها وفعاليتها. لذا من المنطقي ان تتجه الأنظار الى قيادة الجيش كمرجعية وطنية عابرة للطوائف لإستدرار الثقة والهيبة والقوة والصمود في وجه ما يحيق بالبلاد من مخاطر وتحديات.
اذ تتضح صعوبة التمديد للعماد قهوجي مرةً اخرى رغم التسليم بكفاءته ، تتولد حاجةٌ وطنية ملحّة لتعيين خلفٍ له يكون اهلاً بقدراته وأدائه وقابليته لتوليد حالة إجماع او شبه إجماع على شخصه لتولّي قيادة الجيش. فالجيش اللبناني جيش وطني بتركيبته وتربيته وتدريبه وعقيدته القتالية نتيجةَ إعادة بنائه بعد إتفاق الوفاق الوطني في الطائف واستيعاب قيادته الجديدة آنذاك بشخص العماد اميل لحود دروس تجارب الماضي المريرة بأن احسنت دمج عناصره ووحداته وصوّبت بنادقه بإتجاه اعداء لبنان الحقيقيين من صهاينة وارهابيين.
عندما يكون الجيش بهذه المواصفات والتوجهات الوطنية ، يصبح مرشحاً في المنعطفات المصيرية ليلعب دور المرجعية الوطنية القادرة على قيادة سفينة البلاد بعيداً من الانواء الى ميناء الامن والامان. أليس هذا ما فعلته قيادة الجيش بشخص اللواء فؤاد شهاب عشية الأزمة السياسية الحادة التي عصفت بالبلاد سنة 1952 وغداة اضطرار رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري الى الإستقالة ضنّاً بالوحدة والإستقرار بتسليمه مقاليد السلطة الى قائد الجيش ؟ أليس اللواء فؤاد شهاب ، الآتي من قيادة الجيش الوطني الى رئاسة الجمهورية ، هو من اخرج البلاد من ازمتها الوطنية سنة 1958 بإصلاحاته الادارية المركزية ونزعته التنموية الشاملة؟
في ضوء هذه الخلفية الإيجابية لقيادة الجيش الوطني ، وفي غمرة الصعوبات والصراعات التي يمور بها المشهد السياسي اللبناني ، يبرز العميد شامل روكز ، قائد فوج المغاوير ، كأحد ابرز المرشحين لقيادة الجيش. فهو ، الى كفاءته وقدراته الشخصية ، يتمتع برصيد ميداني وازن سواء في عملية عبرا التي انقذت صيدا والجنوب من مخاطر حركة ارهابية مدعومة من الخارج ، او في عمليات جرود راس بعلبك والقاع التي انقذت البقاع الشمالي والبلاد من شرور هجمات ارهابية واسعة .
الى ذلك ، يتمتع العميد روكز بتأييد معلن من زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري وزعيم كتلة اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط ، ناهيك عن تأييد زعيم تكتل الإصلاح والتغيير ميشال عون وزعيم كتلة المردة سليمان فرنجية وزعيم جبهة التحرير والإنماء الرئيس نبيه بري وكتلة الوفاء للمقاومة برئاسة محمد رعد . فوق ذلك ، يتمتع العميد روكز بشعبية واسعة اذ ينظر اليه الناس ، ولا سيما في مناطق جبل لبنان ، كحامٍ لهم ذي هيبة وثقة وقدرة . وليس أدل على ذلك من تلك الجموع المؤيدة والمنخرطة في مسيرة الزحف الى رحاب الطبيعة التي انطلقت منذ ايام من الساحل الى نيحا في اعالي جبال الشوف. هذه الجموع التي تجلّى تأييدها للعميد روكز في اكثر من مناسبة اجتماعية في الآونة الأخيرة انما بدت وكأنها " تنتخبه" للمركز القيادي الرفيع.
صحيح ان ثمة تحفظاً من هذا الفريق او ذاك على تعيين قائد للجيش قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية ، لكن خطورة ما يعصف بالبلاد من مخاطر وتحديات ستجعل من هذا الإستحقاق الماثل اهم واقرب منالاً من اي إستحقاق آخر، بل لعل الوفاء به في هذه الظروف الإستثنائية يعجّل في ايجاد مخارج للإستحقاقات الاخرى.
ادعو المواطنين الطيبين الشرفاء المفعمين بالوطنية الصادقة الى التحرك والضغط شعبياً على اصحاب القرار من اجل تنفيذ رغبتهم في "إنتخاب" العميد شامل روكز قائداً للجيش . بذلك يكسبون لانفسهم جائزة اضافية وثمينة : دَين وجميل في عنق القائد كي يبقى دائماً "حصة" الناس الطيبين ، غالبية هذا الشعب ، لا اسير الزعماء والمتزعمين والحواشي السيئة من ذوي الأطماع والفاسدين.