الانسان الضائع بين آدميته وجنسيته وقوميته وديانته ...
د. عصام نعمان
تحفل وسائل الإعلام ، في زمن الحروب العربية ، بتحقيقات عن تداعياتها ومآسيها العابرة للحدود. موضوع التحقيقات المشردون والنازحون واللاجئون . هم دائماً ضحايا الحروب العبثية المتوالدة في عالم العرب.
استوقفني تحقيق اجرته احدى القنوات التلفزيونية مع النازحين واللاجئين من مخيم اليرموك الفلسطيني / السوري الى لبنان. تألمتُ بطبيعة الحال حتى السديم العظمي لهول المآسي التي كابدها هؤلاء ، نساءً ورجالاً واطفالاً ، من كل الفئات العمرية . غير ان ما استوقفتني اكثر ما يكون مسألة بل مأساة الفلسطيني المطرود من وطنه ، المهجّر لاحقاً من موطنه ، اي مخيمه ، النازح قسراً من سوريا او سواها الى مخيم آخر في لبنان يغصّ ويضج بأهله ، الضائع والموزّع بين مشاعر آدميته وقيود جنسيته وروابط قوميته وديانته .
ليس الفلسطيني ، النازح واللاجيء ، وحده تضيره تلك المشاعر والقيود والروابط بل هي تضير كل انسان يجد نفسه قسراً في حال نزوح ولجؤ. لقد اضحى شرطُ الوجود في كوننا وزمننا محكوماً بمشاعر الآدمية وقيود الجنسية وروابط القومية والدين.
في الحوار مع الفلسطينيين النازحين من مخيم اليرموك ، ثمة اجماع على مطلب إنساني: العيش بكرامة . معنى العيش البقاءُ على قيد الحياة . معنى الكرامة الحدُّ الادنى من المأكل والمسكن والصحة والتعليم.
الفلسطيني من سكان مخيم اليرموك كان ، قبل الحرب ، يحصل على الحد الادنى المقبول من المأكل والمسكن والصحة والتعليم . ثمة امتياز (كان ) يحظى به الفلسطيني في سوريا ، مذّ لجوئه اليها بفعل نكبة 1948 ، يفتقده في سائر بلدان الشتات. انه المساواة في الحقوق والواجبات مع المواطن السوري بإستثناء المشاركة في الإنتخابات ، مرشحاً او مقترعاً . مردُّ الإستثناء ارادة الفلسطينيين القاطعة بأن يحتفظوا بهويتهم الوطنية كضمانة للمحافظة على حق العودة الى وطنهم.
الفلسطيني لم يكن لاجئاً في سوريا بل مواطن يحافظ على هويته الوطنية شرطاً للعودة الى وطنه. هكذا كان وضعه مذّ اكرهته العدوانية العنصرية الصهيونية على النزوح والتشرد . مع اندلاع الحرب في بلاد الشام وعليها واضطرار فلسطينيي سوريا الى النزوح عنها ، فَقَد الفلسطيني السوري مواطنيته وتساوى مع غيره من النازحين الى لبنان في حيازة صفة اللاجيء. بل هو فَقَد ايضاً شطراً كبيراً من آدميته. ذلك ان مواطنيته في سوريا منحته حقوقاً ومزايا في العيش والسكن والصحة والتعليم ، كما في الإحترام والكرامة ، عززت آدميته بمعنى انسانيته وإعتزازه بنفسه.
مع النزوح الى لبنان فَقَد الفلسطيني ، الى مواطنيته ، آدميته او شطراً كبيراً منها. ذلك ان القيود التي تفرضها قوانين الجنسية اللبنانية تحرمه الكثير من حقوق ومزايا الحركة ( الدخول والخروج والتجوال) والسكن والصحة والتعليم ، كما تُذله مساوىء والآم التضخم (الغلاء) وضيق العيش في مجتمعات مضطربة وغير آمنة.
اذ يجد النازح واللاجىء الفلسطيني السوري في لبنان نفسه منتقصاً من آدميته ومن مواطنيته ، يضطر الى نشدان الإغاثة والرعاية من مرجعيات ثلاث : الامم المتحدة ، الهيئات القومية ، والهيئات الدينية.
يلجأ الفلسطيني السوري الى وكالة الغوث الاممية (الانروا) لظنه انها مسؤولة، بموجب ميثاق الامم المتحدة وقرارات مجلس الامن الدولي ، عن اغاثته وتدبير ضروريات حياته ، فيجد ان ميزانية وكالة الغوث الأممية في عجز دائم وتكاد لا توّفر احتياجات اللاجئين في لبنان ، فلا قدرة لها تالياً على توفير ابسط متطلباته الحياتية.
يلجأ الفلسطيني السوري من ثم الى مرجعيته الوطنية ، منظمة التحرير الفلسطينية طالباً العون والدعم ، فلا يلقى إلاّ النزر اليسير وقد لا ينال شيئاً بالنظر الى العجز الدائم الذي تعانيه المنظمة.
اذ يجد ابواب الغوث والعون مسدودة في وجهه ، يطرق الفلسطيني السوري ، وربما الفلسطيني البائس في كل مكان ، باباً لم يكن مطروقاً من قبل. انه باب التنظيمات الإسلامية السلفية ، السياسية و"الجهادية" ، طالباً العون ومعلناً استعداده لتقديم "الثمن" المطلوب : الإنخراط في صفوفها لمقاتلة "اعداء الدين" ( والمذهب).
لن يتوقف الفلسطيني البائس طويلاً امام صدقية التنظيم الديني المقصود ولا امام ما ينتظره في صفوفه من موجبات وتضحيات. الفقر يدفع الى الكفر ، فهل يلومنَّ الفقير احد إن هو قاتَلَ " اعداء الدين" وحصّل ، فوق هذه "المكرمة"، قوتَ عياله ؟
مآسٍ والآم واذلال وقهر يعانيه النازحون واللاجئون الفلسطينيون ، بل كل النازحين واللاجئين من كل جنسية ودين جرّاء الحروب العبثية التي ما انفك العرب وسائر الامم يشنونها ضد بعضهم بعضاً . ما العمل وكيف الخلاص ؟
سؤال خالد في ضمير الإنسانية من الازل الى الابد لم يحظَ ، بعدُ ، بجواب شافٍ . كل ما حظي به بضعة اجراءات وتدابير تتخذها الدول الكبرى عبر الامم المتحدة لسد رمق الجياع ورتق جراح المنكوبين . ألا تستحق مآسي المعذبين في الارض علاجاً اكثر فعالية ؟
ثمة اقتراح قد يبدو اليوم خيالياً : ان يصار الى دعم مؤسسات الإغاثة والرعاية الصحية والضمان الإجتماعي بنظام اممي انساني غايته إدارة شؤون النازحين واللاجئين ورعايتهم في كل انحاء العالم. منطلق النظام الإنساني المقترح واساسه اعتبار اللاجيء ضحية حروب وكوارث لا يد له فيها ولا مسؤولية عنها الامر الذي يستوجب اعطاءه ، لمدة تطول او تقصر ، صفة مواطن اممي وجواز سفر اممي لتمكينه من الحركة والحراك والعمل والإلتزام والحصول على الحقوق الإقتصادية والإجتماعية في حدها الادنى على الاقل. لتأمين هذه الحقوق والتسهيلات يقتضي انشاء صندوق اممي للإغاثة والرعاية والتنمية مهمته رعاية ضحايا الحروب والكوارث ، على ان يموَّل من ميزانية الامم المتحدة ومن ميزانيات الدول والحكومات ، ومن عائدات الاحكام التي يُصدرها ، في مرتجى الشعوب ، مجلس الامن الدولي والمحاكم الدولية المختصة بحق الدول والحكومات المدانة بالتسبب في حروبٍ وكوارث ، على ان تكون الأحكام مقرونةً بغرامات وتعويضات يصار الى ايداع قيمتها الصندوق الاممي للإغاثة والرعاية والتنمية.
حلم ؟ لعله كذلك اليوم ، لكن يقتضي ان يصبح حقيقة ساطعة في قابل الايام.