أزمة عربية مركزية أنجبت ازمات قُطرية لامركزية
د. عصام نعمان
في عالم العرب اليوم أزمة مركزية وأزمات لامركزية. الأزمة المركزية ليست جماع الأزمات اللامركزية بل مصدرها . هي مركزية بمعنى انها اساسية ومحورية ومنبع الأزمات القُطرية اللامركزية . أما اللامركزية فتعني عدم تمحّور الأزمة القُطرية حول قضية واحدة ، مفردة ، بل تشعّبها الى قضايا ومسارات متعددة.
أزمة العرب المركزية ناجمة عن أسباب وعوامل خمسة رئيسة:
اولها ، تعدديةٌ عميقة ، شاملة ومرهقة طبعت حال العرب على مرّ الأزمان والعصور . قوام هذه التعددية مكوّنات شتى : قبائل ، طوائف ، مذاهب ، اثنيات ، وثقافات متمايزة ومتداخلة في النسيج المجتمعي في مختلف البلدان العربية.
ثانيها ، ظاهرةُ التعددية العميقة حالت دون قيام سلطة او سلطات مركزية قوية الامر الذي أضعف الجسم العربي وأوجد لديه قابلية الرضوخ لأقوام وسلطات غير عربية. أليس لافتاً ان عمر الإسلام نحو 1434 سنة ، حكم العرب خلالها حكام اجانب لمدة الف سنة ؟
ثالثها ، هزالُ النظام العربي الناجم عن العامليَن الآنفي الذكر من جهة، واخفاق العرب في إقامة دول وطنية قادرة وعادلة في مختلف أقطارهم من جهة اخرى مكّنا قوى خارجية طامعة من غزو الوطن العربي ، واستغلال موارده وثرواته الطبيعية ، واستدخال الكيان الصهيوني في قلبه ، والهيمنة على مقدراته.
رابعها ، الإنهيار المتدرج للنظام العربي منذ هزيمة 1967 ، ادى لاحقاً الى انهياره الكامل مع اندلاع انتفاضات ما يسمى "الربيع العربي" ونجاح الولايات المتحدة وتركيا و"اسرائيل" من ناحية وايران من ناحية مقابلة ، في اختراقها وتوجيه معظم تياراتها وقياداتها وجهةً تخدم مخططات كلٍ منها ما ادى الى استشراء فوضى شاملة واضطرابات أمنية وحروب اهلية وطائفية.
خامسها ، افتقارُ العرب منذ 2011 الى مرجعية مركزية فاعلة أعلى من الكيانات القُطرية اللامركزية الهزيلة المتهافتة الامر الذي عزز نفوذ قوى خارجية متعددة ، ولا سيما الولايات المتحدة ، واتاح لها فرصاً وفيرة للتدخل في الازمات القُطرية اللامركزية وتوجيه الصراعات الناشبة خلالها وجهةً تخدم مخططاتها ومصالحها.
نتيجةً للأزمة العربية المركزية الراهنة والازمات القُطرية اللامركزية المتناسلة ، لم يبقَ للعرب قضية مركزية . فلسطين فقدت مركزيتها في حياة العرب السياسية تدريجاً منذ حرب "اسرائيل" الاولى على لبنان سنة 1982 التي ادت الى ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية بجميع فصائلها الى تونس . اليوم بات لكلٍ قُطر عربي قضيته المركزية الخاصة في غمرة أزماته اللامركزية المتشعّبة والمتعقّدة.
ثمة ازمات لامركزية قُطرية خمسة : اليمن ، العراق ، سوريا ، ليبيا وفلسطين . اخطرُها الصراع في اليمن وعليه بما هو ازمة داخلية متطورة نحو ازمة ، وربما حرب ، اقليمية . ذلك ان القيادة السعودية استقرت على موقف حاسم من تفاهم لوزان النووي بين ايران ومجموعة دول 1+5 الذي يؤدي ، في تقديرها، الى دعم نفوذ ايران الإقليمي وتشجيعها على التوسع وتعزيز اوضاع حلفائها الاقليميين وبالتالي اتخاذ الشقاق السنّي – الشيعي ابعاداً جديدة اكثر عنفاً وتدميراً.
هكذا يتضح ان السعودية اتخذت قراراً استباقياً للحدّ من تنامي قدرات ايران بمحاولة استنزافها في اليمن . في المقابل ، تتجه ايران ، على ما يبدو ، الى مجابهة الحملة السعودية على خطين : الاول ، عسكري بتعزيز قدرات حركة "انصار الله" وحلفائها . والثاني ، دبلوماسي بتشديد الدعوة الى تسوية الصراعات بين الاطراف اليمنيين سياسياً وحثهم على عقد طاولة حوار وطني جامع في عاصمة دولة لا تشارك في الحرب الدائرة.
"اسرائيل" يُسعدها احتدام الصراع في اليمن واستنزاف ايران . ثمة فريق بين قيادييها المتطرفين يتوقع ان يؤدي إستنزافها المفترض الى إضعافها ما يتيح للولايات المتحدة و"اسرائيل" فرصةً لتدمير منشآتها النووية ، خصوصاً اذا ما رفضت الرضوح، قبل آخر حزيران /يونيو القادم ، الى اتفاق نهائي يتضمن ضوابط متشددة، اميركية واسرائيلية.
للصراع بين السعودية وايران بُعد آخر لا يقل خطورة عن بعده اليمني . إنه تأجيج الصراع في كلٍ من سوريا والعراق ولبنان بقصد استنزاف ايران وانعكاس ذلك سلباً على حلفائها الإقليميين ولاسيما المقاومة اللبنانية (حزب الله) والمقاومة الفلسطينية ("حماس" و"الجهاد الإسلامي"). في هذا المجال ، يُخشى ان تُقدِم "اسرائيل" على خطوة امنية مؤذية في لبنان او سوريا او في كليهما بقصد تخريب تفاهم لوزان النووي بين اميركا وايران.
حزب الله استشعر خطورة الخطوة الامنية الاسرائيلية المحتملة فردّ، بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله ، بتأجيج الحملة السياسية والإعلامية ضد السعودية ولمّح الى احتمال قيام حركة "انصار الله " والجيش اليمني وحلفاؤهما بالرد عسكرياً داخل الاراضي السعودية.
لئن يبدو التدخل البري السعودي احتمالاً مُستبعَداً في الوقت الحاضر ، فإنه ليس امراً مستحيلاً . ذلك ان القيادة السعودية اعطت نفسها هامشاً واسعاً للمناورة والحركة ، بالتفاهم مع واشنطن او من دونه ، ما قد يؤدي الى تطورات بالغة الحدّة والخطورة.
في موازاة هذه الصراعات المحتدمة ، يندلع صراع صامت بين الرئيس باراك اوباما ومعارضيه الجمهوريين في الكونغرس . فقد نجح الجمهوريون في إقناع بعض الأعضاء الديمقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ بمساندة تسوية محورها قرار يعطي الكونغرس الحق بالتصويت على اي صفقة دولية تتعلق بكبح البرنامج النووي الإيراني.
كيف سيردّ اوباما ؟ هل يرضخ لإرادة الغالبية الجمهورية في الكونغرس الممالئة لـ "اسرائيل" ام ينتهج سياسة اقل عداء واكثر ليونة تجاه خصوم السعودية (و"اسرائيل") في اليمن والعراق وسوريا كونهم يواجهون في الداخل عدواً مشتركاً شرساً اسمه الإرهاب الاعمى متمثلاً بتنظيميّ "داعش" و"جبهة النصرة" اللذين تعتبرهما واشنطن عدوين لدودين؟
الصراع مفتوح على شتى الإحتمالات ، وكذلك ازمة العرب المركزية وازماتهم القُطرية اللامركزية المتناسلة...