التغلّب على التوحّش بتوطيد التعايش والتوحّد
د. عصام نعمان
في لقاء باراك اوباما وحيدر العبادي برز عدو مشترك وهاجسان مختلفان . العدو هو "الدولة الإسلامية – داعش" . هاجس العبادي تعبئةُ العراق والعراقيين، سياسياً وعسكرياً ، لمواجهة "داعش" وصولاً الى اجلائه عن كامل المحافظات التي احتلها في بلاد الرافدين . هاجس اوباما الحدُّ من نفوذ ايران ودعم حكومة العبادي ضد "داعش" في حدود اتفاقية الإطار الإستراتيجي للعام 2008 ، اي بما يؤمّن حماية مصالح الولايات المتحدة بعد جلاء قواتها عن العراق اواخرَ العام 2011.
في رأي اوباما ان مواجهة "داعش" "عملية طويلة الأمد" ، ومع ذلك تفادى الخوض في طلب العبادي تزويد العراق اسلحةً متطورة ، خصوصاً طائرات "اباتشي" وطائرات دون طيار تساهم في حال توفيرها برفع مستوى القدرات العسكرية العراقية في معارك المدن التي تخوضها . برر اوباما تجاهله مسألة تزويد العراق اسلحةً متطورة "بعدم وجود طلب محدد من العبادي خلال المحادثات".
الحقيقة ان لتجاهل اوباما سبباً آخر. إنه هاجس واشنطن المقلق من تزايد نفوذ ايران في العراق ولاسيما بين اطراف "الحشد الشعبي" الذي يساند الجيش العراقي في معاركه ضد "داعش". أزمة الثقة هذه تجلّت اثناء معركة تحرير تكريت اذ أعلنت واشنطن كما "الحشد الشعبي" بعدم المشاركة فيها اذا ما شارك فيها الطرف الآخر. واشنطن بررت موقفها بأن "الحشد الشعبي" يقوم بإرتكاب اعمال قتل وانتقام وسلب ونهب في المناطق التي يجري تحريرها من "داعش" . في المقابل ، يتهم "الحشد الشعبي" سلاح الجو الاميركي بدعم "داعش" بأسلحة واغذية يلقيها في المواقع التي تحاصرها قوات "الحشد الشعبي" بالتعاون مع قوات الجيش العراقي.
العبادي أقر بأن "انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان" وتجاوزات حدثت وانه لن "يتسامح معها إطلاقا"ً. لكنه بيّن ان تلك الإختراقات كانت من مندسين حاولوا الإساءة الى الإنتصارات المتحققة ، معتبراً انه "لايجب تحميل الحشد الشعبي مسؤولية هؤلاء المندسين".
اوباما تفهّم تفسير العبادي للإنتهاكات بقوله إن "تعبئة" قوات "الحشد الشعبي" حدثت عندما برز تنظيم "داعش" وكانت الحكومة العراقية في مرحلة التكوين ، ولكن "فور تولي العبادي السلطة... من تلك النقطة فصاعداً فإن اي مساعدة اجنبية (ويعني بها مساعدة ايران لـِ "الحشد الشعبي") يجب ان تمر عبر الحكومة العراقية".
العبادي ايّد هذا الرأي (الذي يدعو اليه ايضاً المرجع الشيعي الاعلى السيد السيستاني) بقوله " إنه يتوق الى إخضاع جميع المقاتلين في العراق لسلطة الدولة". وكان باشر ، قبل لقائه اوباما، بإتخاذ سلسلة إجراءات لتطمين الاميركيين ابرزها تحويل " الحشد الشعبي" الى مؤسسة رسمية تتبع القائد العام للقوات المسلحة. لكن المسؤول الاسبق عن ملف العراق في مجلس الامن القومي الاميركي دوغلاس اوليفنت قال ، على هامش زيارة العبادي ولقائه اوباما ، " إن الوقت قد حان للأميركيين من اجل المراهنة على اصدقائهم في العراق لمواجهة النفوذ الإيراني، وان العبادي هو احد هذه الوجوه". لكنه عاد واستدرك قائلاً : "لكنني اعتقد انها مهمة صعبة لأن النفوذ الإيراني تزايد ليس في العراق فحسب بل في مكتب العبادي ايضاً".
ربما بإنتظار حل ازمة الثقة العالقة بين واشنطن وبغداد ، آثر اوباما تجاهل مسألة تزويد العراق أسلحةً متطورة في الوقت الحاضر والإكتفاء بمنح حكومة العبادي مبلغ 200 مليون دولار مساعدة اضافية للأغراض الإنسانية.
الحقيقة ان ازمة الثقة ليست عالقة بين ادارة اوباما وحكومة العبادي بقدْر ما هي قائمة وفاعلة بين اطراف المشهد العراقي برمته . ذلك ان الإحتلال الاميركي للعراق العام 2003 ادى الى حلّ الجيش العراقي ، العمود الفقري للدولة ، وتمزيق نسيج المجتمع العراقي ، وتأجيج الحساسيات والخلافات المذهبية بين مختلف مكوّناته . المفارقة ان القوى السياسية والجماعات والأفراد الذين هبّوا لمقاومة الإحتلال الاميركي واكرهوه اواخرَ العام 2011 على الإنسحاب اصبحوا الآن ، في معظمهم ، ممن يهادنون "داعش" من جهة ويعارضون "العملية السياسية" التي انجبت حكومة نوري المالكي ثم حكومة حيدر العبادي من جهة اخرى.
بكلام اوضح ، نتيجةَ اثارة العصبيات الطائفية والتدخلات الخارجية باتت القاعدة الشعبية العراقية منقسمة الى "موزاييك" عجيب من مذاهب: سنّة ، وشيعة، وكلدان واشوريين مسيحيين ، وصابئة، ومن اثنيات : كرد وترك وفرس وازيديين وغيرهم . اجل ، اصبح الشعب العراقي شتاتاً في وطنه تتقاذفه وتتنازعه قوى سياسية مغلقة على نفسها ، تتعاطى السياسة بمنطق المحافظة على الذات واستجلاب المصالح والمنافع . الى ذلك ، استشرى الفساد في الدولة والمجتمع على السواء الامر الذي بدّد الموارد والثروات الوطنية على ايدي زعماء ( الاصح "ذوعماء") ومتنفذين لا تحركهم الاّ عصبياتهم ومصالحهم.
مع ذلك لا يخلو المشهد العراقي من قيادات وشخصيات ومثقفين ومواطنين امناء لوطنيتهم وعروبتهم واخلاقهم وقيمهم الشريفة. قلة ، لا كثرة ، من هؤلاء شاركت في "العملية السياسية" وفي تأليف الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة حيدر العبادي . صحيح ان حكومة العبادي افضل بما لا يقاس من حكومة المالكي، لكنها تفتقر بالتأكيد الى الصفة الوطنية العامة والقاعدة الشعبية الواسعة. لقد وعد العبادي نفسه ومواطنيه والقوى الحية في بلاد الرافدين كما اصدقاءه الإيرانيين والاميركيين بأنه مصمم على توسيع حكومته لتصبح حكومة وحدة وطنية جديرة وقادرة على مواجهة التحديات التي تهدد البلاد من كل الجهات وفي مقدمها "داعش" . لكن ليس في الافق ما يشير الى انه وبلاد الرافدين مع موعد قريب لتحقيق هذا الإنجاز الوطني التاريخي.
ان المواطنين كما القياديين الوطنيين والشعبيين الشرفاء يدركون ان نهوض العراق من ازمته الصعبة وشتاته المقلق ، ونجاح قواه الحية في اجتراح قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية كفيلة بمواجهة التدخلات الخارجية والتحديات الداخلية مشروطان بإعادة اللحمة الى نسيجه المجتمعي ، والوحدة الى مكوّناته السياسية والإجتماعية ، والتوافق على برنامج وطني للتحرير والمقاومة وبناء الديمقراطية وحكم القانون والتنمية الشاملة.
اجل ، التغلّب على توحّش "داعش" وتدخلات القوى الخارجية الطامعة ، وفساد قوى الداخل المتكالبة على المال والمصالح والمنافع مشروط بقيام قوى الحركة الوطنية الشعبية الديمقراطية الإتحادية ، وبتوطيد التعايش بين مكوّنات المجتمع والدولة ، والتوحّد في نضالها من اجل تحقيق اهدافها السياسية والحضارية العليا.