منظمة التحرير
من مقاومة "اسرائيل" الى محاكمتها ؟
د. عصام نعمان
يمكن اختصار تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية بمراحل خمس: الاولى ، مقاومة "اسرائيل" من خارج فلسطين المحتلة لغاية اخراج فصائلها من لبنان نتيجة حرب "اسرائيل" العدوانية الاولى عليه سنة 1982 . الثانية ، مقاومة "اسرائيل" مدنياً داخل فلسطين المحتلة لغاية توقيع اتفقات اوسلو سنة 1993. الثالثة ، مهادنة "اسرائيل" سياسياً في الضفة الغربية ومواجهتها ميدانياً في قطاع غزة في كل مرة كانت تشن عليه حرباً عدوانية كان آخرها في خريف العام الماضي. الرابعة ، الإنشغال بملهاة المصالحة الوطنية والاعيبها بعد انتخابات المجلس التشريعي وتأليف حكومة اسماعيل هنية سنة 2007 وانهيارها عقب سيطرة حركة "حماس" على قطاع غزة. الخامسة ، الإعتراف بفلسطين من قبل الامم المتحدة دولةً غير مكتملة العضوية ما مكّنها من الإنضمام الى معاهدات ومواثيق دولية ابرزها "نظام روما" المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية الذي يوليها حق ملاحقة "اسرائيل" لإرتكابها جرائم منافية للقانون الدولي الإنساني. ففي الاول من نيسان /ابريل 2015 اصبحت دولة فلسطين رسمياً العضو 123 في المحكمة الدولية المذكورة واصبح في وسعها ملاحقة مسؤولين اسرائيليين بإرتكاب جرائم حرب او تهم اخرى مرتبطة بالإحتلال ، ابرزها الإستيطان .
تقصير منظمة التحرير في المراحل الاربع الاولى مردّه الى اسباب ثلاثة تتجاوز تركيبتها واداءها وتتصل بحال الامة اجتماعياً وسياسياً على النحو الآتي:
اولاً ، انطواء تركيبة الامة على تعددية راسخة ومرهقة قوامها قبائل وطوائف ومذاهب واثنيات متمايزة واحياناً متصارعة ما أسهم في إخفاق العرب ، حاكمين ومحكومين ، بإستثناء مصر ، في بناء دول وطنية قادرة على دمج مكوّنات التعددية السائدة وتأمين العيش المشترك المستدام فيما بينها.
ثانياً ، استغلال القوى الخارجية ، ولاسيما الولايات المتحدة في التاريخ المعاصر ، للتعددية الراسخة المرهقة في غياب الدول الوطنية القادرة والعادلة ، وقيامها بإحتلال اقطار عربية والسيطرة على مواردها والتحكم بسياساتها.
ثالثاً ، نجاح التدخلات الخارجية مقرونةً بتخلّف النُظُُم السياسية القائمة وفسادها في استدخال التحدي الصهيوني وتعزيزه ، ومن ثم في تظهير تحدي الإرهاب الإسلاموي السلفي للعرب ، حكومات ومجتمعات ، ما ادى الى ان تكون استجابةُ الأمة ومواجهتها لهذين التحديين قاصرتين . وفي سياق هذا القصور يمكن تفسير اعتماد قوى المقاومة الفلسطينية سياسة المصالحة الوطنية مراراً وتكراراً رغم فشلها المدوّي الامر الذي حوّلها ملهاة تقليدية مملة في الحياة الفلسطينية المعاصرة.
في ضوء التحديات والممارسات والتحوّلات السالفة الذكر ، تستشعر قوى حيّة فلسطينية ، حاجة وجودية لمراجعة التجارب السابقة واعادة جدولة الاولويات بتقديم الأهم على المهم بدءاً بالإنتقال من ممارسة ملهاة المصالحة الوطنية بين فصائل متناقضة الى اعتماد ثقافة المقاومة ، نهجاً وممارسة .
لعل أهم مفاصل المقاربة الجديدة المرتجاة خمسة:
اولها ، اعتبار التحالف الاميركي – الصهيوني النقيض والعدو الرئيس ، القومي والسياسي والامني والإجتماعي والثقافي ، للأمة عموماً ولقوى المقاومة الفلسطينية والعربية خصوصاً ، والإنطلاق في رسم الخطط والبرامج والسياسات من هذه المسلّمة الإستراتيجية.
ثانيها ، بناء ثقافة المقاومة على اساس التوافق والتضامن والتحالف بين تنظيمات وفصائل للمقاومة متقاربة إن لم تكن متماثلة في تبنيها للمشروع الوطني الفلسطيني وفي تقويمها للمرحلة البازغة المتمثلة بتزامن التحديين الصهيوني والإرهابي وتكاملهما في وجه المشروع النهضوي العربي، ومن ضمنه المشروع الوطني الفلسطيني .
ثالثها ، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كذراع للمشروع الوطني الفلسطيني بما هو حركة تحرير الأرض والإنسان ، وتكريسها قيادةً ومرجعية للقرار السياسي في إطار المجلس الوطني ، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات .
رابعها ، تجاوز اتفاقات اوسلو ومتفرعاتها السياسية والامنية كونها حوّلت السلطة الفلسطينية هيئةً وظيفية في خدمة المشروع الصهيوني القائم على التمييز العنصري والإستيطان والإقتلاع والتوسع ، والإنتقال تالياً الى اعتبار الهدف المرحلي لمنظمة التحرير هو " تغيير ميزان القوى مع العدو الصهيوني بإعتماد نهج الكفاح والمقاومة والمقاطعة والوحدة" (بحسب مصطفى البرغوتي) . وفي هذا السياق يقتضي تفعيل المقاومة المدنية والميدانية .
خامسها ، توسيع الإعتراف بالدولة الفلسطينية وتفعيل دورها بالإنضمام الى المعاهدات والمؤسسات الدولية ولا سيما تلك التي تمكّنها من ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين لإرتكابهم جرائم موصوفة في الأراضي المحتلة كالإستيطان ، وتعذيب الاسرى ، والإساءة الى الجرحى ، والابادة ، والعنصرية.
لعل عضوية فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية هي امضى اسلحة المقاومة المدنية وقد أضحت ، على ما يبدو، المهمة الرئيسة لمنظمة التحرير في مرحلتها الخامسة البازغة . وليس ادل على اهمية هذا السلاح من ردة فعل"اسرائيل" على تكريس انضمام دولة فلسطين الى المحكمة الجنائية الدولية. فقد وصفته الخارجية الإسرائيلية بأنه "سياسي ووقح وخبيث"!
في المقابل ، رحب كل من حركة "حماس" والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " بإنضمام فلسطين الى المحكمة الجنائية الدولية ودعتا السلطة الى مقاومة الضغوط الهادفة الى تقويض نتائج هذا الإنضمام.
رئيس اللجنة الفلسطينية المختصة بتوثيق الجرائم الإسرائيلية صائب عريقات استجاب دعوة "حماس" والجبهة الشعبية بقوله إن القضية التي سترفع امام المحكمة الدولية ستركز على ملفي حرب غزة والإستيطان ، موضحاً : "نعدّ كل الوثائق المتعلقة بهما لتقديمها الى المحكمة".
منظمة التحرير على عتبة مفترق وامام تحدٍّ جديد. هل تعوّض في المرحلة الخامسة بعض تقصيرها الفادح في المراحل الاربع الاولى؟