فلسطين
من لعبة المصالحة الى ثقافة المقاومة
د. عصام نعمان
صارحت اصدقائي الفلسطينيين خلال مؤتمر "المصالحة الفلسطينية : الآفاق والتحديات" المنعقد قبل يومين في بيروت بأنه منذ نكبة فلسطين العام 1948 ، واجه العرب ، حاكمين ومحكومين، التحدي الصهيوني نظرياً في الغالب الأعم . ومنذ صيف 2013 ، يواجه بعض العرب ، حاكمين ومحكومين ، تحدّياً اضافياً هو "الدولة الإسلامية – داعش" ، متزامناً مع إعلان استراتيجية امريكية عنوانها "التحالف الدولي ضـد الإرهاب" ، ومترافقاًً مـع ظاهـرة استشراء الشقـاق السنّي- الشيعي واستغلالـه مــن اجــل: (1) مواجهـة "داعش" واخواتـه بقدرات ومـوارد حلفـاء الولايـات المتحـدة الإقليمييـن المحافظين لخدمـة سياستـها ومصالحهـا وأمـن "اسرائيـل" ولدعـم أمـن هؤلاء الحلفاء ، و(2) مواجهة قوى المقاومة العربية وحلفائها الاقليميين بتوصيفها محوراً شيعياً يخدم مصالح ايران . كل ذلك لتمكين الولايات المتحدة من إستكمال تنفيذ مخططها الرامي الى اعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية على نحوٍ يخدم استراتجيتها الثلاثية الهدف : تعزيز مصالحها وحمايتها ، وصون امن "اسرائيل" ، ومجابهة مخططات أعدائها ومنافسيها. ولا شك في ان "اسرائيل" تسعى الى الإفادة من المخطط الامريكي لتنفيذ مخططها الذاتي الرامي الى احاطة نفسها بمجموعة دويلات وجمهوريات موز قائمة على اساس قبلي أو مذهبي أو اثني وبالتالي عاجزة عن اقامة قوة رادعة ضدها.
انشغلت طويلاً قوى المقاومة الفلسطينية بمسألة المصالحة الوطنية . ورغم التوصل مراراً وتكراراً الى عدّة اتفاقات ، إلاّ أيّاً منها لم يجد طريقه الى التنفيذ الكامل. مردُّ هذه الظاهرة ، وغيرها من الإختلالات في مسار العرب ماضياً وحاضراً ، عواملُ واسباب ودوافع شتى اهمها :
اولاً ، انطواء تركيبة الامة على تعددية راسخة ومرهقة قوامها قبائل وطوائف ومذاهب واثنيات متمايزة واحياناً متصارعة ما أسهم في إخفاق العرب ، حاكمين ومحكومين ، بإستثناء مصر ، في بناء دولةٍ وطنيةٍ قادرة على دمج مكوّنات التعددية السائدة وتأمين العيش المشترك المستدام فيما بينها.
ثانياً ، استغلال القوى الخارجية ، ولاسيما الولايات المتحدة في التاريخ المعاصر ، للتعددية الراسخة المرهقة وغياب الدولة الوطنية القادرة والعادلة ، وقيامها بإحتلال اقطار عربية والسيطرة على مواردها والتحكم بسياساتها.
ثالثاً ، نجاح التدخلات الخارجية مقرونةً بتخلّف النُظُُم السياسية القائمة وفسادها في استدخال التحدي الصهيوني وتعزيزه ، ومن ثم في تظهير تحدي الإرهاب الإسلاموي السلفي للعرب ، حكومات ومجتمعات.
رابعاً ، استجابةُ الأمة ومواجهتها لهذين التحديين كانتا قاصرتين ما ادى لاحقاً الى اندلاع خلافات وصراعات بين قوى المقاومة الفلسطينية . وقد ادى اعتماد صيغ تسووية للمصالحة الوطنية الى فشلٍ مدوٍّ وحوّلها ملهاة مملة في الحياة السياسية الفلسطينية .
خامساً ، في ضوء التحديات والممارسات والتحوّلات السالفة الذكر ، تستشعر قوى حيّة فلسطينية وعربية ، حاجة وجودية لمراجعة التجارب السابقة واعادة جدولة الاولويات بتقديم الأهم على المهم بدءاً بالإنتقال من ممارسة ملهاة المصالحة الوطنية بين فصائل متناقضة في اهدافها وسلوكياتها الى اعتماد ثقافة المقاومة ، نهجاً وممارسة .
لعل اهم مفاصل المقاربة الجديدة المرتجاة عشرة:
اولها ، اعتبار التحالف الامريكي – الصهيوني النقيض والعدو الرئيس ، القومي والسياسي والامني والإجتماعي والثقافي ، للأمة عموماً ولقوى المقاومة الفلسطينية والعربية خصوصاً ، والإنطلاق في رسم الخطط والبرامج والسياسات من هذه المسلّمة الإستراتيجية.
ثانيها ، بناء ثقافة المقاومة على اساس التوافق والتضامن والتحالف بين تنظيمات وفصائل للمقاومة متقاربة إن لم تكن متماثلة في تبنيها للمشروع الوطني الفلسطيني وفي تقويمها للمرحلة البازغة المتمثلة بتزامن التحديين الصهيوني والإرهابي وتكاملهما في وجه المشروع النهضوي العربي، ومن ضمنه المشروع الوطني الفلسطيني .
ثالثها ، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كذراع للمشروع الوطني الفلسطيني بما هو حركة تحرير الأرض والإنسان ، وتكريسها قيادةً ومرجعية للقرار السياسي في إطار المجلس الوطني ، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات .
رابعها ، تجاوز اتفاقات اوسلو ومتفرعاتها السياسية والامنية كونها حوّلت السلطة الفلسطينية هيئةً وظيفية في خدمة المشروع الصهيوني القائم على التمييز العنصري والإستيطان والإقتلاع والتوسع.
خامسها ، اعتبار الهدف المرحلي لمنظمة التحرير هو " تغيير ميزان القوى مع العدو الصهيوني بإعتماد نهج الكفاح والمقاومة والمقاطعة والوحدة" (مصطفى البرغوثي) ما يستوجب تفعيل المقاومة المدنية والميدانية ، والتوافق على قيادة عليا وغرفة عمليات موحّدة لفصائل المقاومة بغية ترفيع فعاليتها التعبوية والقتالية .
سادسها ، توسيع الإعتراف بالدولة الفلسطينية وتفعيل دورها بالإنضمام الى المعاهدات والمؤسسات الدولية ولا سيما تلك التي تمكّنها من ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين لإرتكابهم جرائم موصوفة في الأراضي المحتلة كالإستيطان ، وتعذيب الاسرى ، والإساءة الى الجرحى ، والابادة ، والتمييز العنصري.
سابعها ، الفصل بين هدف بناء الدولة ومتطلباتها (بما في ذلك الإنضمام الى المعاهدات والمؤسسات الدولية) وبين خيار المفاوضات ، وبالتالي رفض تجميد عملية بناء الدولة او تجميد المقاومة المدنية والميدانية كشرط لإستئناف المفاوضات مع العدو.
ثامنها ، التنسيق بين قوى المقاومة الفلسطينية وقوى المقاومة العربية ، ولا سيما في لبنان وسوريا والعراق ، بغية تفعيل المواجهة ضد العدو الصهيوني وحلفائه وتشديد الضغوط عليه في مختلف المواقع والميادين .
تاسعها ، بناء علاقات سياسية متينة مع الدول العربية ، ولاسيما منها دول الطوق وفي مقدّمها مصر ، على اساس مقتضيات المصالح العليا للمشروع الوطني الفلسطيني ، وكذلك مع الدول الإسلامية التي توفّر النصرة لقضية فلسطين وفي مقدّمها ايران ، ومع مختلف القوى السياسية في العالم المحبة للحرية والعدل والسلام والمعادية للعنصرية والليبرالية الإقتصادية المتوحشة.
عاشراً ، تصحيح وتجديد المشروع الوطني الفلسطيني واداء منظمة التحرير واجهزتها بعقد مؤتمر عربي- اممي جامع مرة كل ثلاث سنوات ، وآخر استثنائي اذا ما دعت الحاجة ، والحرص على اشراك القوى الحية ، العربية والأممية ، في عملية التصحيح والتصويب والتجديد.
الحكمة مطلوبة دائما في سلوك الحكام . لكنها اذا لم تكن مقرونة بالشجاعة في ظروف تتطلب الكثير منها ، فإنها تغدو تعبيراً فظاً عن الخنوع والهوان .
كمْ من أندلس وفلسطين ، بل كم من أجيال وازمان ، نحتاجها كي نصبح أمة لا تضحك من جهلها - وخنوعها – الأمم ؟