موازين لا تتوازن ... وكيانات تتناسل
د. عصام نعمان
للعام الخامس على التوالي تحتدم الصراعات في عالم العرب وتترك آثارها المدمرة على البشر والشجر والحجر . لا مؤشر الى توقّف رياح التغيير والتدمير. بالعكس ، ثمة ما يشير الى اشتداد عصفها . قلّما تجد قطراً عربياً بقي بمنأى عن آثارها . اية حال سيكون عليها عالمنا بعد سنة او خمس؟
احتدام الصراعات الطائفية والمذهبية والاثنية يحول دون توازن موازين القوى داخل الكيانات العربية المضطربة وفي محيطها الإقليمي . عدم التوازن يقود بدوره الى مزيد من الصراع . هل بمقدور اي قوة دولية او اقليمية لجم الصراعات المحتدمة واحتواؤها ؟
اقوى الاطراف الدولية ، الولايات المتحدة ، تبدو عاجزة عن الحسم . هي في صراع مع خصومها ومنافسيها في الخليج والعراق وسوريا ولبنان ومصر واليمن والسودان وليبيا وتونس والجزائر ، ناهيك عن افغانستان وباكستان والصومال.
الولايات المتحدة في صراع مع ايران حول برنامجها النووي وحول ما هو أهم : دورها في عالم العرب توجّساً من تحوّلها اقوى قوة مركزية اقليمية . سواء توصلت واشنطن الى اتفاق نووي مع طهران ام اخفقت ، فهي ستبقى في صراع معها حول وجودها ونفوذها المتناميين في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.
استمرار الصراع يحول دون توازن موازين القوى الاقليمية ما يؤدي الى تصديع كيانات تدور فيها صراعات. أليس هذا ما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا ؟
لنستذكر جوانب من تاريخنا المعاصر.
بريطانيـا وفرنسا كانتا استبقتا انهيار السلطنـة العثمانية برسم مخطط سايكس– بيكو لوراثتها ووضعتاه موضع التنفيذ فور إنتهاء الحرب العالميـة الاولى . الولايات المتحدة استبقت انهيار النظام الإقليمي العربي بعقد اتفاقات مع جماعة الاخوان المسلمين والتنظيمات الشقيقة وسعت الى تنفيذها مع اندلاع انتفاضات "الربيع العربي" .
ما كان مخطط سايكس- بيكو لينجح لولا تعاون قيادات عربية ، فئوية وطائفية واثنية ، مع بريطانيا وفرنسا في اقامة كيانات سياسية مستحدثة في الولايات العربية المنسلخة عن السلطنة العثمانية . صحيح ان المكوّنات الاجتماعية والإثنية في تركيبة السلطنة كانت تصبو الى تحقيق استقلالها السياسي في دول وطنية ، لكنها ما كانت لتتحرك على النحو الذي حدث عشية الحرب العالمية الاولى وفي اثنائها لولا دعم مادي وسياسي وفّرته لها بريطانيا وفرنسا الطامعتين في تقاسم التركة العثمانية.
كذلك كان حال الولايات المتحدة ومخططاتها السابقة لـِ "الربيع العربي" واللاحقة له. فقد "حظيت" خلال تنفيذها بتعاونٍ مؤثر من قيادات فئوية وطائفية ومذهبية واثنية يطمح معظمها الى اقامة كيانات سياسية مستحدثة داخل "الدول" القائمة . وما كانت الولايات المتحدة لتحظى بتعاون تلك القيادات لولا فشل الفئات الحاكمة التي تولّت السلطة بعد جلاء الجيوش الاجنبية في بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية. فالنُظُم السياسية التي اعقبت مرحلة الإستعمار ظلّت اسيرة تعدديةٍ طائفية واثنية عميقة وعصيّة على الإندماج في صيغة سياسية متقدمة للعيش المشترك في مجتمع اهلي موحد. الخلاصة ؟ التعددية الفئوية والتدخلات الخارجية عاملان فاعلان في توفير قابلية اهلية داخلية لإستشراء الصراعات وتصديع الكيانات القائمة.
في ضوء هذه الحال الصراعية المحتدمة ، تبدو المنطقة العربية مرشحة لمرحلةٍ متمادية من الإضطرابات والتحوّلات الإجتماعية والسياسية . في سياقها ، يجري تفكيـك بعض "الدول" الى كيانات وجمهوريات موز على اسس قبلية ومذهبية واثنية.
ابرز ساحات الصراع والتحوّلات العراقُ وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وفلسطين :
في العراق ، يجري سباق محموم للوصول الى الموصل بين حكومة بغداد ، المدعومة من ايران، وحكومة كردستان العراق وحكومة تركيا الاردوغانية وذلك تحت رقابة الولايات المتحدة . مع إعلان "الفائز" الاول يتقرر مصير العراق "القديم " وعدد الكيانات التي ستتفرع عنه . فقد بات واضحاً ان الولايات المتحدة ( ومن ورائها "اسرائيل") يهمها ان يقوم في محافظاته الغربية السنّية كيان سياسي يكون بمثابة اسفين يفصل سوريا عن العراق وبالتالي عن ايران . اما تركيا فلا تمانع في ان يبقى "داعش" في الموصل اذا كان من شأنه مساعدة اردوغان على تحقيق حلمه العثماني بإستعادة الموصل( وغيرها) الى "الوطن الام" !
في سوريا ، لا تخفي الولايات المتحدة وحلفاؤها دعمهم للمعارضة السورية "المعتدلة" كما لوحدات حماية الشعب الكردي. مخطط واشنطن يرمي في نهاية المطاف الى تمكين حلفائها "المعتدلين" من السيطرة على شمال سوريا واعلانها كياناً مستقلاً عن دمشق وحكومتها، ومساعدة حلفائها الاكراد لطرد "داعش" من محافظة الحسكة كي تصبح في قابل الايام الاقليم الغربي لدولة الكرد الممتدة من شمال العراق الى شمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا. هذا المخطط الاميركي قد يتسبّب بإحتكاكٍ مع انقرة التي لا تمانع بقيام كونفدرالية كردية ، وليس دولة، تضم الاقاليم الثلاثة تحت سلطتها المركزية.
في لبنان ، يتقرر مصير الكيان الهش في ضوء ما ستؤول اليه الصراعات في سوريا . المسار ، اذاً ، طويل .
في اليمن ، تمانع الولايات المتحدة ، كما السعودية ، في سيطرة الحوثيين على البلاد. لكنهما لا تمانعان ، اذا ما تعذر استعادة السلطة وفق المبادرة الخليجية، في تكريس تقسيم اليمن الى كيان للزيود في الشمال وآخر للشوافع في الجنوب ، وبينهما ملعب لـِ "القاعدة" والاعيبها .
في ليبيا ، تبدو اميركا (ومعها اوروبا) مرتبكة ازاء تزايد نشاط "داعش" وامكانية تجذره في رقعة من الارض تحتضن منابع النفط. وهي اذ لا تمانع ، كما اوروبا ، في تقسيم البلاد الى ثلاثة كيانات (طرابلس وبنغازي وفزّان) إلاّ انها حريصة على ان تبقى منابع النفط في الشمال والوسط بمأمن من "داعش" وسائر التنظيمات السلفية المتطرفة.
في فلسطين ، تدعو الولايات المتحدة ، دونما حماسة او إلتزام، الى اقامة "دولة" فلسطينية على ما تبقّى من الضفة الغربية ، شريطة عدم المساس بأمن الكيان الصهيوني الطامع بمزيد من الإستيطان والتوسع والساعي الى جعل الاردن الوطن الفلسطيني البديل.
بعض هذه المخططات يبدو داني القطوف فيما بعضها الآخر فجّ وربما مستحيل . غير ان كلها تبقى مصدر توتير وتدمير وصراعات طويلة الامد . ذلك يحول، بالتأكيد ، دون التحكّم بالتحوّلات وبالتالي بموازين القوى المتطورة الامر الذي يفسح في المجال امام تناسل بعض "الدول" القائمة وإنجاب مزيد من الكيانات الهزيلة والهزلية...
صباح الخير ايتها الأوهام.