التشاور من اجل التحاور ... والتفاوض لاحقاً
د. عصام نعمان
يجب عدم الرهان على مشاورات موسكو السورية ، كما يجب عدم المبالغة في تيئيس الناس منها. اصحاب القرار ، على تفاوت نفوذهم في موسكو وواشنطن والقاهرة واسطنبول ناهيك عن دمشق ، توافقوا بواقعية على ان المطلوب حالياً ومبدئياً ان يعود السوريون الى الحوار فيما بينهم قبل التحاور مع الآخرين على اختلاف مصالحهم ومطامعهم.
اجل ، المطلوب من اجتماعات المعارضين السوريين في القاهرة وموسكو التشاور من اجل التحاور . وبعد نجاح التشاور والتحاور ، يصار الى مباشرة التفاوض.
البدء بالتشاور بين المعارضين جاء نتيجةَ التوافق بين كبيري اصحاب القرار الدوليين ، موسكو وواشنطن . ذلك ان الامريكيين كانوا منخرطين ، قبل صعود "الدولة الإسلامية – داعش" ، في دعم وتمويل وتسليح من كانوا يظنّون انهم فصائل سورية معتدلة تقاتل حكومة دمشق وجيشها ميدانياً وتطالب بإقصاء الرئيس بشار الاسد كثمن لمباشرة التفاوض مع الحكومة سياسياً.
مغامرة او مهزلة تسليح المعارضة "المعتدلة" و"جيشها الحر" فشلت فشلاً ذريعاً. من يرغب في الإطلاع على هذا الفصل المضحك المبكي من المغامرة – المهزلة الامريكية ، فليقرأ التحقيق الذي نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" بتاريخ 26/1/2015. لعل اطرف ما في التحقيق واكثره خيبة للذين كانوا يخططون للحرب في سوريا وعليها ان معظم الاسلحة الخفيفة والثقيلة التي سلّمتها اجهزة الإستخبارات الامريكية لفصائل المعارضة "المعتدلة" قد انتهى الى ايدي جبهة النصرة !
فشل المغامرة الامريكية في سوريا كان احد خمسة أسباب دفعت واشنطن الى التقارب مع موسكو في سعي الاخيرة الى ايجاد مخرج آمن من حمأة الحرب الى فسحة الحل السياسي . السبب الثاني شعور ادارة اوباما بأن لا سبيل الى تشديد الضغط على سوريا ، حليفة ايران ، اذا كانت واشنطن جادة في التوصل الى تسوية مع طهران بشأن برنامجها النووي.
السبب الثالث ان نجاح "الدولة الإسلامية" في شمال سوريا وفي شمال العراق في توسيع رقعة انتشارها ثم مباشرة تهديدها مصالح الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العربية المحافظة ، دفع المتضررين من هجمة الحركات الاسلاموية الإرهابية المتنامية الى اعادة النظر بسياستهم المتعثرة في بلاد الشام وبلاد الرافدين . اعادة النظر تعني ، في الغالب ، تقديم العداء والجهد العسكري ضد "داعش" واخواته على العداء للرئيس السوري ونظامه.
السبب الرابع ان سلوكية "الدولة الإسلامية" في المناطق التي دخلتها ظرفياً او احتلتها وتمكّنت فيها تكشّفت عن سؤ تدبير وتسلّط وقمع واستغلال وتفقير وظلم واسع لَحِق بالناس ما استثار سخطهم وعداءهم للفاتحين الاجلاف وجعلهم يترحمون على من حَكَم قبلهم رغم اخطائه وخطاياه.
السبب الخامس ان الجيش السوري ( ومن ورائه الحكومة في دمشق) إستفاد من الاسباب الاربعة سابقة الذكر ووسع من حملته على الفصائل المسلحة جميعاً ونجح في طردها من مناطق عدّة في شمال البلاد ووسطها وجنوبها الى جانب احتفاظه بالسيطرة على المدن الكبرى وجميع مراكز المحافظات ما عدا محافظة الرقة.
اصحاب القرار ، الكبار منهم وبعض الصغار ، توافقوا اذاً على التمهيد للخروج من الحرب في سوريا وعليها بالعمل ، اولاً، على اخراج السوريين من مقاطعة بعضهم بعضاً. هذا الهدف يتطلب ، بادىء الامر ، إعادة الحوار بين المعارضين انفسهم تمهيداً لإعادته بين المعارضة والحكومة . وعليه ، فإن ما جرى في القاهرة وما يجري في موسكو هو تشاور بين المعارضين من اجل التحاور فيما بينهم تمهيداً للتحاور مع ممثلي الحكومة بغية التوافق على محاور التفاوض الذي سيجري لاحقاً في دمشق او في إطار "مؤتمر جنيف -3" او وفق أية صيغة يجري التوافق عليها.
يمكن الجزم بأن التشاور بين المعارضين جرى ويجري وأنه أخذ في إنتاج ثماره. ولعل ابرزها حتى الآن التوافق على الآتي:
- الحل السياسي هو المخرج الرئيس من الحرب والمدخل الرئيس الى المصالحة الوطنية والإصلاح الدستوري الديمقراطي.
- مكافحة الإرهاب ودحره ومواجهة قوى التدخل الخارجي يشكّلان بحد ذاتهما اولوية .
- التوافق على ان الجيش السوري هو القوة المسلحة الأساسية للمحافظة على وحدة الوطن وسيادة الدولة.
- وحدة الوطن السياسية وحماية سيادة الدولة على كل إقليمها.
- إعطاء اولوية في مسيرة الحل السياسي للجانب الإنساني، وخصوصاً ما يتعلق بوقف القصف العشوائي وادخال الغذاء والدواء الى كل المناطق .
- إطلاق سراح معتقلي الرأي والمخطوفين والاسرى والناشطين السلميين والنساء.
- تشكيل لجان مشتركة لإنجاز الخطوات المار ذكرها.
اما سائر البنود ، ولاسيما ما يتعلّق منها بالإصلاحات الدستورية والسياسية ودقائق المرحلة الإنتقالية ، فهي ما زالت قيد البحث وربما تنتظر بدء مرحلة التفاوض مع ممثلي الحكومة.
لعل افضل ما طمّأن المعارضين المتشاورين في موسكو التأكيد الذي ابلغهم اياه ديبلوماسيون امريكيون بضرورة إنجاح المشاورات الجارية فيما بينهم لأن لا بديل من العملية التي يقودها الروس في الوقت الحاضر ، وبأنه يقتضي تسهيل دمج الجيش السوري في التحالف ضد الإرهاب من خلال العملية السياسية الجارية الآن.
ربما اصبحت عملية ضرورية أيضاً بعد العدوان الإسرائيلي الفاجر في القنيطرة ورد المقاومة المدوّي عليه في مزارع شبعا مؤخراً.