كيف يستفيد الفلسطينيون
من تدهور مكانة "اسرائيل" الدولية ؟
د. عصام نعمان
ليس قلق "اسرائيل" السياسي في هذه الآونة اقل من قلقها الامني. صحيح انها قلقة وخائفة من التداعيات الامنية لعملية القنيطرة العدوانية ، لكنها قلقة ايضاً من تدهور مكانتها في الساحة الدولية ، ولاسيما بعد اعلان المدعية العامة لدى المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة بدء التحقيق الاولي في إحتمال ارتكاب قادة "اسرائيل" جرائم حرب في فلسطين لم يمرّ عليها الزمن وخاضعة تالياً لصلاحية المحكمة.
بنيامين نتنياهو اصيب بصدمة بعد قبول طلب دولة فلسطين الإنضمام الى "نظام روما" المؤسس للمحكمة . سارع الى طلب النجدة من باراك اوباما الذي تجاوب معه بسرعة قياسية بإعلانه ان السلطة الفلسطينية ليست دولة ذات سيادة وبالتالي غير مؤهلة للإنضمام الى المحكمة الجنائية الدولية.
المحكمة تجاوزت رفض نتنياهو واوباما بقبولها النظر في طلبات للتحقيق تقدّمت بها فلسطين . ذلك ان فلسطين اضحت ، بقرار من الجمعية العمومية للامم المتحدة ، دولةً لها صفة المراقب لديها . الإقرار بصلاحية المحكمة يوليها الحق ببدء تحقيق قضائي دولي يضع قيادات اسرائيلية عدّة امامها بتهم ليس اقلها ارتكابها جرائم حرب في الإعتداءات على غزة كما بتنفيذها اعمال استيطانٍ في الضفة الغربية المحتلة ، وتعذيب المعتقلين ، وتقييد الحريـات. الى ذلك ، لن يطول الوقت قبل ان تتقدم دولة فلسطين بطلب التحقيق ايضاً بإمتناع المسؤولين الإسرائيليين عن تسليم السلطة الفلسطينية حصتها من الضرائب التي تجبيها حكومة "اسرائيل" لمصلحة السلطة الفلسطينية وفقاًَ لإتفاقات اوسلو .
ثمة موقفان في "اسرائيل" ازاء تأكيد المحكمة الجنائية الدولية صلاحية النظر في طلبات التحقيق والإدعاءات المقدمة ضـد المسؤولين الإسرائيليين . الاول يقوده نتنياهو واركان فريقه الحاكم ويتعهد بمنع المحكمة من التحقيق مع ضباط وجنود اسرائيليين واطلاق احكام بحقهم . الثاني يدعو الى التعقل والقبول بصلاحية المحكمة وبالتالي الإستعداد قضائياً لمواجهـة تحقيقاتها واتهاماتها ، ومن ثم اعداد ملفات الشكاوى الممكن تقديمها بحق مسؤولين فلسطينيين عن مخالفات ارتكبوها بحق "مدنيين اسرائيليين" !
اللافت ان وزارة الخارجية في تل أبيب استشعرت مؤخراً تدهور مكانة "اسرائيل" في الساحة الدولية فعممت ، بحسب صحيفة "يديعوت احرونوت" (13/1/2015) ، وثيقة سرية تتضمن توقعات بأن تتعرض مكانة "اسرائيل" الى مزيد من التدهور عالمياً في حال استمرار الجمود السياسي إزاء الفلسطينيين وحقوقهم. كما تشير الوثيقة الى احتمال تشديد المقاطعة الاوروبية لمنتجات المستوطنات في الضفة الغربية والجولان المحتل ، واحتمال تقلّص صادرات الاسلحة الإسرائيلية ، وتراجع الإستثمارات الأجنبية ، واتساع رقعة المقاطعة الاكاديمية لـِ "اسرائيل" . اكثر من ذلك ، تشير الوثيقة الى انه ليس واضحاً ما اذا كانت الولايات المتحدة ستواصل استخدام الفيتو في مجلس الامن تأييداً لـ"اسرائيل" بعد الإنتخابات العامة للكنيست في شهر آذار/مارس المقبل.
تشكّل الوثيقة احد دوافع استاذ القانون في جامعة تل ابيب إيال غروس الى نشر مقالة في صحيفة "هآرتس" (18/1/2015) يدعو فيها "اسرائيل" الى استيعاب حقيقة واضحة هي ان قواعد اللعبة قد تغيّرت. يقول غروس : "يجب ان يعرف قادة "اسرائيل" ان صلاحيات المحكمة تنبع من احد ثلاثة : الإنضمام الى المحكمة ، او قبول احكامها ، او التوجه اليها من جانب مجلس الامن الدولي (...) فلسطين انضمت الى "نظام روما" وتستطيع طلب البحث في ما يجري على ارضها(...) اذا كان وزير الخارجية الإسرائيلي متفاجئاً من ذلك ، فلأنه لم يستوعب بعد ان الموقف القضائي الإسرائيلي بشأن عدة مسائل ، ابتداءً من سياسة الجيش الإسرائيلي في غزة وصولاً الى الإستيطان ، بعيد بُعد الشرق عن الغرب حيال الموقف المقبول عالمياً " .
حسناً ، قد يستوعب القادة الصهاينة ان قواعد اللعبة قد تغيّرت ، وان تحقيقات قد تُجرى واحكاماً قد تصدر عن المحكمة الجنائية الدولية بحق مسؤولين اسرائيليين ، ولكن هل استوعب المسؤولون الفلسطينيون قواعد اللعبة الجديدة ؟
لقد صدر في الماضي رأي استشاري عن محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن لاشرعية جدار الفصل الذي اقامته "اسرائيل" في الضفة الغربية ، فهل عرف القادة الفلسطينيون كيف يستفيدون منه ؟ كذلك صدر تقرير لجنة غولدستون الإتهامي بحق "اسرائيل" نتيجةَ حربها العدوانية الاولى ضد قطاع غزة ، فهل تمكّنت السلطة الفلسطينية من توظيفه في مصلحة قضية فلسطين؟ ألم تطلب حذفه من جدول اعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للامم المتحدة قي جنيف ؟!
هبْ ان احكاماً بتجريم المسؤولين الإسرائيليين صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية ، فهل بإمكان دولة فلسطين الإستفادة منها في مواجهة الكيان الصهيوني ؟
ليس ما يشير الى ان القيادات الفلسطينية في وضعها الراهن قادرة على الإستفادة بشكل فعال من تدهور مكانة "اسرائيل" الدولية او من الاحكام التي يمكن ان تصدر عن المحاكم الدولية . السبب ؟ لأن فلسطين ، في ظل قياداتها الحالية ، عجزت عن تحقيق الوحدة الوطنية ، او إعادة تنظيم وتفعيل منظمة التحرير ، او التفاهم على تأليف حكومة وطنية جامعة تمثل جميع الفصائل والجماعات الفلسطينية الفاعلة ، اوالتوافق على استراتيجية متكاملة تلعب بموجبها المقاومة المدنية كما المقاومة الميدانية دوراً في نضال موصول لتحرير فلسطين من البحر الى النهر ، وبناء دولة مدنية ديمقراطية لكل الشعب الفلسطيني في وطنه وشتاته .
بإختصار ، ليست فلسطين ، حتى الآن ، قوة وازنة ، شعبية وسياسية ، تفرض نفسها على مجتمع الدول والرأي العام العالمي وتحمل القوى الحية فيه ، كما الحكومات الاكثر تحسساً بعدالة قضية الشعب الفلسطيني ، على منحه المزيد من الدعم والتأييد من جهة وإتخاذ المزيد من تدابير المقاطعة السياسية والإقتصادية والاكاديمية لـِ "اسرائيل" من جهة اخرى .
الكرة الآن ، كما دائماً ، في ملعب الفلسطينيين والعرب .