مناهضة فرنسا للإرهاب والعنصرية كاريكاتورية...
د. عصام نعمان
لا ادري كيف يفسر الرئيس فرنسوا هولند قيام صحيفة "شارلي ايبدو" بتكرار التطاول الكاريكاتوري على الرسول (ص) وإقبال اكثر من خمسة ملايين فرنسي على ابتياع نسختها السفيهة. هل فعلة الصحيفة فعل ايمان بحرية الرأي ام فعل ممارسة فاضحة للعنصرية ؟ أليست فعلة الصحيفة افتزازاً للمسلمين عموماً وللإسلاميين المتطرفين خصوصاً ومُرضعة سخية للإرهاب والعكس صحيح ايضاً؟ واذا كان الامر كذلك ، فلماذا تتغاضى الحكومة الفرنسية عن العنصريين والإرهابيين وتتظاهر ، بشكل كاريكاتوري ، انها تناهض الفريقين؟
تتحسب فرنسا منذ سنوات لهجمات يشنّها اسلاميون "جهاديون" في عمقها، وتعلّم ان بعضاً من هؤلاء اسهمت اجهزة استخباراتها في تصديرهم الى ساحات الإقتتال والقتل في سوريا والعراق ، وان بعضهم الآخر سوف يعود ويرتدّ عليها ويضرب في عقر دارها. مع ذلك بدت فرنسا ، كما غيرها من دول اوروبا ، وكأنها فوجئت بالمجزرة التي نفذها الاخوان شريف وسعيد كواشي بحق محرري ورسامي الصحيفة الساخرة في قلب باريس.
تعلم الإستخبارات الفرنسية ، وقبلها الاميركية ، ان الاخوين كواشي مرتبطان بداعية اصولي هو ابو بكر حكيم في تونس يتولّى تجنيد وتدريب "المجاهدين" من الفقراء والمهمشين والعاطلين من العمل ويرسلهم الى العراق وسوريا، وهي تعلم ايضاً أن الأخوين كواشي كانا في سوريا قبل ستة اشهر من هجومهما على الصحيفة الهزلية.
اكثر من ذلك ، الإستخبارات الفرنسية وغيرها من اجهزة الإستخبارات في اميركا واوروبا ، تعلم ان بعضاً من "المجاهدين" الذين جرى إرسالهم الى ميادين "الجهاد" كانوا من اصحاب السوابق ممن قضوا في السجون اشهراً وسنوات . مع ذلك ، غضّت النظر بل سهّلت تصديرهم الى سوريا والعراق ليكونوا وقوداً لحروبٍ كان بعض دول الغرب يتقصّد صبَّ الزيت على نارها ليتخلّص منهم في معمعتها الى الابد. بعض من هؤلاء قضى فعلاً في الحرب ، لكن بعضهم الآخر افلت من الموت وعاد الى مسقط رأسه ومسرح نشأته في إحدى دول اوروبا التي يحمل جنسيتها . هؤلاء الناجون من الموت هم من يقوم بعمليات ارهابية ضد ما يُطلِق عليه تنظيمُ "الدولة الإسلامية" تسميةَ "الغرب الصليبي".
ليس في وسع اجهزة الإستخبارات في فرنسا إنكار معرفتها بما تنشره مجلة "دابق" او "Dabiq" بالإنكليزية من توجيهات صادرة عن "الدولة الإسلامية" الى "الجهاديين" في دول الغرب وفيها دعوة صارخة الى كلٍ منهم بأن يجاهد حيث هو ضد "الصليبيين" والأميركيين والفرنسيين وحلفائهم بأن "يضرب رأس احد هؤلاء بحجر او يطعنه بسكين او يدهسه بسيارة او يرميه من علٍ او يسممه".
يبدو ان القادة السياسيين في اميركا واوروبا ادركوا ، متأخرين ، جسامة الخطر المحدق بدولهم وشعوبهم ، لذا يعقدون اجتماعات على اعلى المستويات لوضع الخطط والترتيبات اللازمة لمواجهته ، فبماذا تراهم يفكرون ؟ هل بإعادة النظر بموقفهم ، مثلاً ، من سوريا التي اسهموا ، وما زالوا ، في دعم بعض التنظيمات "الجهادية" التي تستنزفها بلا هوادة منذ العام 2012 ؟
لا شك في ان فريقاً من القادة السياسيين في فرنسا سيمانع في تعديل النهج المتبع منذ سنوات ، مترسملاً على ردود الفعل الشعبية السلبية على الإرهاب و"الجهاديين" الاسلامويين ، فيميل تالياً الى وضع الإسلام والإسلاميين جميعاً في سلّة واحدة لمحاصرتهم والتضييق عليهم وتبرير ترحيلهم . هذا الفريق يتفق في الرأي مع بنيامين نتنياهو الذي عقّب على الهجوم الذي تعرضت له صحيفة "شارلي إيبدو" بقوله : "إن الإرهاب الذي يمارسه الإسلام المتطرف لا يعرف الحدود ، ولذا يجب ان يكون التصدي له عابراً للحدود". بمن يتمثّل الإسلام المتطرف ؟ يجيب نتنياهو: " يتمثّل بالإرهاب المتطرف الذي يمارسه كلٌ من حماس وحزب الله وداعش والقاعدة"...
ألا يعلم نتنياهو ان هذه التنظيمات متناقضة في اهدافها وسلوكياتها وتحترب فيما بينها ؟
يبدو ان ما يدعو اليه نتنياهو ليس غريباً عن الولايات المتحدة وتركيا . ألم يعلن مسؤول رفيع في وزارة الخارجية التركية قبل ايام إن تركيا والولايات المتحدة تسعيان لوضع اللمسات الأخيرة على برنامجٍ لتجهيز وتدريب معارضين سوريين "معتدلين" سيربو عددهم على 15 الف مقاتل خلال ثلاث سنوات وذلك لمقاتلة "داعش" بالتعاون مع سائر فصائل "المعارضة السورية المعتدلة" ؟ ألا يعني هذا التوجّه ان ثمة مَن لا يزال يعتقد في دول الغرب ، رغم فشل تجربة "الجيش السوري الحر" ، ان بإمكان "جيش" المعارضين "المعتدلين" الجاري تدريبه مقاتلة الجيش السوري النظامي و"داعش" في الوقت نفسه ، وانه لن يهزم ليستولي مقاتلو "داعش" على اسلحته كما فعلوا مع "الجيش الحر" ؟!
لا اعتقد ان عمى الالوان وضغط المصالح هما على درجة من الحدّة تحول دون احاطة فرنسا وقادة الغرب بوقائع الحرب التي تشنها "الدولة الإسلامية" ضد مَن تعتبرهم اعداءها في الشرق والغرب واعداء " إسلامها" المتطرف . ولا اعتقد ان قادة فرنسا ودول الغرب على درجة من السذاجة تحملهم على وضع الإسلام والمسلمين جميعاً ، على تنوّعهم وتناقض سياسات حكوماتهم والصراعات الدائرة فيما بينهم ، في سلّة واحدة وتكريسهم عدواً مركزياً للغرب على ضفتي المحيط الأطلسي. ولا اعتقد ان الغرب وحلفاءه في عالم العرب والمسلمين سيثابرون على تجاهل حقيقة ساطعة هي وجود تناقضات رئيسية واخرى ثانوية في العلاقات الدولية ، وان الإسلام "الجهادي" المتطرف المعقود اللواء لـِ "الدولة الإسلامية" هو في حال تناقض صارخ مع الغرب وحلفائه في الحاضر والمستقبل المنظور، وان لا جدوى على الإطلاق من تجاهل هذه الحقيقة الساطعة والتمادي بوضع "حماس" وحزب الله مع "داعش" و"القاعدة" في سلّة واحدة ومحاربتهم مباشرةً او مداورةً حتى آخر برميل بترول يملكه حلفاء الغرب في عالم العرب.
فرنسا مدعوة الى التخلي عن سياستها الكاريكاتورية في معالجة ظاهرتيّ العنصرية والإرهاب اللتين يشكّلان وجهين لعملة واحدة .