التقسيم بالطائفية ممكن ... التحرير والتوحيد مستحيلان
د. عصام نعمان
لسليم الحص قول مأثور : " نحن نزعم اننا شعب واحد ، إلاّ اننا في سلوكنا قبائل ، وقبائل العصر تُسمّى طوائف . نحن في ما يشبه جاهلية الحداثة ، وهذا تخلّف".
ينطبق هذا التوصيف على كل بلاد العرب في الحاضر ، ولا سيما على العراق وسوريا واليمن وليبيا ، فهل يمتدّ نتيجةَ " ثورات الربيع العربي" الى المستقبل؟
التطورات السياسية والامنية تؤشر الى ذلك. ففي العراق انقسام سياسي امتطى ظهور الطوائف ويهدد البلاد ، في غمرة تدخلات خارجية ، بإقامة دويلة للسنّة في المحافظات الغربية ، واخرى للشيعة في المحافظات الجنوبية، وثالثة للكرد ( شبه ناجزة) في المحافظات الشمالية .
في سوريا ظاهرة مشابهة اذ يكاد شمال البلاد وشرقها السنّيان يشكّلان دويلة تحت سيطرة "الدولة الإسلامية – داعش" فيما تسعى قوى الهيمنة الخارجية الى اقامة دويلة مماثلة لكلٍ من العلويين في غرب البلاد والدروز في جنوبها.
لقوى الهيمنة الخارجية مصلحة واضحة في تقسيم بلاد العرب على اساس قَبَلي وطائفي ومذهبي ، وقد اعتمدت في الماضي نهجَ "فرّق تسد"، وكان من ابرز "ثماره" اتفاق سايكس – بيكو الذي قسّم بلاد الشام وبلاد الرافدين على النحو المعروف. لكن ، ما مصلحة اهل السنّة واهل الشيعة وسائر الطوائف في إعادة تقسيم المقسّم في الحاضر والمستقبل؟
من المؤسف ان فريقاً من اصحاب العصبيات والمصالح والإرتباطات المشبوهة في العـراق وسوريا واليمن وليبـيا منخرط مع قوى خارجيـة ، اقليمية ودولية ، في استنساخ تجربة التقسيم المرّة التي عانى ويعاني منها عرب المشرق منذ انهيار السلطنة العثمانية اواخرّ الحرب العالمية الاولى.
في العراق ، يتنامى إتجاه قَبَلي ومذهبي يدعو الى إنشاء جيش عشائري لدعم (!) الجيش العراقي في تحرير بعض المحافظات ذات الغالبية السنّية من سيطرة "الدولة الإسلامية". فقد ورد في صحيفة "الحياة"(2015/1/7) ان وفداً من عشائر الأنبار ووجوه المحافظة سيزور الولايات المتحدة منتصفَ الشهر الجاري، بموافقة رئيس الحكومة حيدر العبادي ، "للبحث مع المسؤولين الاميركيين في مصير المدن السنيّة وآليات مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي يسيطر على ثلثي المحافظة" . وكان وفد سنّي ضمّ شيوخ عشائر مناهضين للحكومة ومسؤولي فصائل في محافظات الانبار وصلاح الدين ونينوى (الموصل) زار واشنطن في 28 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي للبحث في اوضاع تلك المحافظات وتمّ الإتفاق على تشكيل قوة سنّية قوامها مئة الف عنصر في اطار "الحرس الوطني".
تأييد رئيس الحكومة العبادي لإنشاء "قوة سنّية" يبدو غريباً وعصيّاً على الفهم. ففي مناسبة الذكرى 94 لتأسيس الجيش العراقي ، اكّد العبادي " ان يوم تحرير كل اراضي العراق من تنظيم "داعش" بات قريباً". وزير الدفاع خالد العبيدي اكد الامر نفسه قائلاً إن "محافظة نينوى ستشهد معركة الفصل والفيصل تحت شعار قادمون يا نينوى". حسناً ، اذاً كان " تحرير كل اراضي العراق من تنظيم "داعش" بات قريباً" ، فلماذا يؤيد العبادي الدعوة الى انشاء "قوة سنية" بالتعاون مع الولايات المتحدة ؟ ولماذا يدعو العبيدي الى "ثورة عشائرية للتخلّص من العدو الغريب عن جسد المجتمع العراقي" ؟ ماذا سيكون موقف العبادي والعبيدي اذا ما دعا قادة فصائل شيعية في العاصمة بغداد ومحافظتي ديالي وبابل الى إنشاء جيش عشائري بالتعاون مع ايران "للتخلص من العدو الغريب عن جسد المجتمع العراقي" ؟ هل بالعشائر وجيوش الطوائف يتحرر العراق ويتوحد؟
في شمال سوريا وشرقها ، اصبح تقاسم المحافظات بين "الدولة الإسلامية " و"النصرة" وغيرهما امراً واقعاً على اساس طائفي ومذهبي. في هذا السياق ، وتحت شعار مقاومة "داعش" ، نقلت "رويترز" عن مسؤول رفيع في وزارة الخارجية التركية قوله إن تركيا والولايات المتحدة تسعيان لوضع اللمسات الاخيرة على برنامج لتجهيز وتدريب معارضين سوريين ، موضحاً ان "البرنامج يهدف الى تدريب 15 الف مقاتل خلال ثلاث سنوات " إعتباراً من شهر آذار/مارس المقبل. غني عن البيان ان المعارضين المنوي تدريبهم وتسليحهم سيأتون بالتأكيد من المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة ، وهي مناطق ذات طابع سنّي غالب الامر الذي سيدمغ الجيش المنتظر بلون مذهبي فاقع.
الى ذلك ، فإن مواقع نشر هذا الجيش ستكون ضمن مناطق تمارس فيها المعارضة السورية سيطرة وسطوة. وضْع هذه المناطق ذات الغالبية السنيّة يساعد القوى الخارجية على تنفيذ مخطط تقسيم البلاد ، خاصةً اذا لم تتوصل الحكومة في دمشق وقيادات المعارضة الى اتفاق على حل سياسي للأزمة المتفاقمة.
في اليمن ، تتخذ الإضطرابات منحى عشائرياً وطائفياً في آن ، ذلك ان الحوثيين الذين باتوا يسيطرون على عدة محافظات في شمال البلاد زيديون (شيعة) فيما الفصائل التي تواجههم يغلب عليها الطابـع السني الشافعي . فوق ذلك ، هناك فصيل "القاعدة" ذو الطابع السني المعادي لسائر القوى المتقاتلة ولاسيما الحوثيين ، ناهيك عن قوى الحراك الجنوبي (عدن) ذات الإتجاه الإنفصالي ما يفاقم الازمة الراهنة.
في ليبيا ، تردت الاوضاع على نحوٍ بالغ الحدة والتعقيد. ذلك ان الفصائل الموالية كما المعارِضة تتناسل بوتيرة عجيبة وتتوزع مختلف قبائل وعشائر البلاد ما يضفي على الحروب الدائرة طابعاً عشائرياً صارخاً . ولعل "الحسنة" الوحيدة لهذه الحروب انها غير طائفية وغير مذهبية كونَ جميع السكان ، بدواً وحضراً ، مسلمين ينتمون في غالبيتهم الى المذهب المالكي.
هكذا يتضح ان القوى الخارجية الناشطة لتقسيم العراق وسوريا واليمن وليبيا وتقاسمها مناطقَ نفوذٍ فيما بينها لا تحتاج الى كبير عناء في استخدام القبلية والطائفية والمذهبية ادوات للتفريق والشرذمة لأن القوى والفصائل الإسلاماوية والعشائر والطوائف المتصارعة توّفر عليها العناء بممارساتها البالغة العنف والشراسة.
املنا ان تؤدي إستجابتنا لهذه التحديات الى تعميّق الوعي الوطني والإجتماعي بخطورة قوى الهيمنة الخارجية وفصائل الإرهاب والعنف الاعمى الداخلية ، والى تحفّيز القوى الوطنية والديمقراطية في السلطة والمعارضة على إدراك حقيقة بازغة هي ان التقسيم ممكن بالطائفية والعشائرية وان التحرير والتوحيد مستحيلان بهما ، وانه آن الاوان للتوافق على برنامج متكامل لمواجهة قوى الإرهاب والعنف الاعمى ، سياسياً وميدانياً ، وفكّ تحالفها مع القوى الخارجية الناشطة لتعزيز هيمنتها بالتقسيم والشرذمة بالعشائرية والطائفية.