الحياة الرخيصة والموت الثمين
د. عصام نعمان
غريبةٌ ومذهلة هي ظاهرة الإقبال على الموت في ساحات العنف الأعمى العربية والإسلاميـة . "الإنتحاريون" أو "الإستشهاديون" ، سمِّهم ما تشاء، يختارون الموت بطيبة خاطر، أكاد أقول بفرح، وبإعداد متزايدة ، ولأسباب يبدو بعضها جليلاً وبعضها الآخر سخيفاً وأحياناً دنيئاً . وثمة بينهـم مَن يقطع مسافات شاسعة ليصل الى الساحة حيث الغاية التـي يطيب له الموت من اجلها . بفعلته تصبح الحياة رخيصة والموت ثميناً.
لا جدال في ان من يبذل حياته في قتال جيش عدو ومحتل شهيد ، وان شهادته عطاء مطلق بلا أجر . لكن ، ما وصْـفُ من يفجّر نفسه بين مصلّين في مسجدٍ ينتمون إلى غير مذهبه ، او حتى الى مذهبه ؟
يقول البعض : هذا إنتحار وليس شهادة . يعترض البعض الآخر : بل هو شهادة ، لأن الشهيد موقن في قرارة نفسه، ومن ورائه شيخه وراعيه ، انه بشهادته ذاهب إلى الجنة.
حول هذه الظاهرة العجيبة الغريبة ، ثمة ملاحظات ثلاث:
الملاحظة الأولى ان الحياة أضحت، من حيث القيمة ، مساوية للموت في مفهوم من يسترخصها ، بل ربما أدنى منه. الحياة أضحت من المِثْليات ، وبديلُ مِثْلها هو الموت . والحال ان ثمة قاعدة راسخة في الحياة هي ان يضحي الإنسان بالرخيص من اجل نيل الثمين . اما عندما يفعل العكس ، فيصبح للقاعدة عندئذٍ إستثناء يستثير العجب ويستوجب الفحص والتدقيق.
فـي ساحات العنف الأعمى ، كما في العراق وسوريا وليبيا واليمن وأفغانستان والصومال وباكستان ، يكاد الإستثناء يصبح قاعدة. هذا يعني ان الحياة ، في مفهوم من يضحّون بأنفسهم ، قد أضحت بلا قيمة بل أدنى من الموت . إذا كان الأمر كذلك ، هل السبب تدني قيمة الحياة ذاتها أم لجؤ صاحبها المضحي بها إلى معيار خاص، جديد ، ومختلف في تقويم قيمتها ؟
الملاحظة الثانية ان ثمة أسباباً تدفع الإنسان الى التضحية بحياته . في هذا المجال ، يمكن تنسيب الأسباب الى فئتين : الأولى مادية والثانية نفسية وايديولوجية.
في الفئة الأولى تبرز عوامل الفقر والحاجة ومفاعيل المرض العضال. في الفئة الثانية تبرز عوامل الإنهيار النفسي والإيمان الديني والنزوع الوجداني إلى تحقيق أحلام وأهداف عليا لخير الجماعة والامة والوطن .
سواء كان السبب في تضحية الإنسان بحياته ينتمي الى الفئة الأولى أو الى الثانية، فإن الحياة في مفهوم صاحبها المضحي بها تكون قد أضحت مساوية للموت أو ، ربما ، ادنى منه.
الملاحظة الثالثة ان إستشراء ظاهرة التضحية بالحياة في عالم العرب والمسلمين يؤدي إلى إتساع ظاهرة "التمويت" أو صناعة الموت . ذلك يؤدي بدوره الى إضعاف شروط تنظيم الحياة ، العامة والخاصة ، بل الى إحداث انقلاب في قوانين الإجتماع البشري والحضارة الإنسانية . فالقاعدة البديهية الراسخة في الإجتماع البشري وفي شروط تنظيم المجتمع وإدارته هي تمسّك الإنسان بالحياة ، وتشبثه بها ، ودفاعه " المستميت " عنها . وهو في ذلك انما يمارس فعل ارادة ذاتية نابعة من عمق وجوده . لكن مع إستشراء ظاهرة التضحية بالنفس، بسهولة وخفة ولأسباب تبدو بالمنطق السليم غير مهمة أو غير معقولة ، فإن قدرة المجتمع ، بسلطاته جميعاً، على السيطرة والتوازن والإنتاج تصبح ضعيفة ومتراخية حتى حدود الشلل.
الـى ذلك ، يتخلخل مع إستشراء ظاهرة الإقبال علـى الموت سُلّم القيم الإنسانية المتعارَف عليها ، أي القيم " التقليدية " التي رعت إزدهار الدول وإنهيارها وصعود الحضارات وإنحدارها.
قد يقول قائل: إن القادة والمرشدين والفقهاء والعلماء متعهدي تربية وتوجيه وتدريب وإدارة الإستشهاديين والإنتحاريين قادرون على الإحتفاظ بسلطة السيطرة على هؤلاء ، وان الأمر لن يفلت من أيديهم ، ولا خوف تالياً على الحضارة المعاصرة من خطر الإنهيار. لكن ، ألم نرَ ما آل إليه أمر " المجاهدين الأفغان" من مختلف الجنسيات ؟ لقد عادوا إلى أوطانهم الأصلية وغيّروا أهدافهم وطوروا سلوكياتهم ودشنوا مرحلة جديدة في صناعة الموت تختلف جداً عن سابقتها الذاوية .
لا أقصد في كل ما أسلفت قوله الاستشهاديين من أبطال المقاومة . هؤلاء يعرفون لماذا ومتى وكيف يضحون بأنفسهم من اجل القضية أو الغاية أو المبادىء العليا التي تساوي ، في نظرهم ، وجودَهم . أقصد فقط جماعات العنف الأعمى ، ومن ضمنهم تنظيمات الإرهاب بمختلف انواعه وادواته ، المفتقرين غالباً إلى قيم عليا ومبادىء نبيلة وأهداف مرحلية تندرج في نهج جهادي أو مشروع سياسي . إن ممارسة هؤلاء للعنف الأعمى أدت وتؤدي إلى فواجع ومآسٍ وكوارث. الدليل ؟ انظروا إلى "نتاج" هؤلاء في العراق وسوريا وليبيا واليمن حيث حوّلوا بلدانهم ساحات لمقتلةٍ تُزهق فيها يومياً أرواح مئات الأبرياء ، وجلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
أكثر من ذلك ، أدت ممارسة هذا الطراز من صناعة الموت إلى تمزيق النسيج الإجتماعي على نحوٍ مفجع . فالعشيرة الواحدة في العراق وليبيا واليمن تشظّت إلى جماعات عدة تعتنق عقائد شتى متصادمة ، وتنخرط في خدمة جهات سياسية متناقضة . ومنظمة " القاعدة" أصبحت لها أذرعة متنافسة وأمراء متناحرون .
الأنكى من هذا كله ان كلاًّ من المنظمات والجماعات التي تمارس العنف الأعمى يُتهَم او يَتهِم الآخر بالتعامل مع دولة إقليمية او مع الولايات المتحدة الأميركية من دون ان يكلّف نفسه عناء نقد تجربته الذاتية. ينتج عن هذه الحال الشديدة الإضطراب فوضى عارمة تعصف بالبلاد والعباد وتضع الجميع على شفا كارثة عاتية .
لا شك في ان للولايات المتحدة و"اسرائيل" دوراً في التأزيم والتأجيج والتفريق والتقسيم ، ومع ذلك فإن الدرس الأساس المستفاد من كل ما جرى ويجري ان أميركا و"اسرائيل" هما المستفيد الرئيس من الفوضى المستفحلة . فقد حققتا خمسةً من جملة أغراض تتوخى تأجيج الفِتَن والحروب في عالم العرب :
· تدمير العمران بشراً وشجراً وحجراً .
· تعطيل صناعة النفط بحيث أصبحت عائداتها المخفوضة مستغرَقة في إعادة التعمير والبناء بالدرجة الأولى .
· تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات : كردي وسنّي وشيعي .
· تمزيق النسيج الإجتماعي في العراق وسوريا وليبيا واليمن .
· تدمير قطاع غزة وتقتيل الآف من ابناء الشعب الفلسطيني .
ذلك كله أدى ويؤدي إلى مزيد من التفتيت وبالتالي يخدم "إسرائيل" ويدعم مخططها التوسعي .
كيف السبيل للخروج من هذه المحنة ؟
أرى ان للقوى الوطنية والاجتماعية الحية دوراً رئيساً في التصدي للتفكير التكفيري، وللفاشية الدينية الإرهابية ، وفي فضح تحالف بعض الفئات الحاكمة مع تنظيمات العنف الاعمى. كما ان لها دوراً في تفعيل العمل الشعبي الديمقراطي وتصويب حركته السياسية ، واستنهاض المجتمع المدني ، وتوحيد القوى الوطنية والإجتماعية في مسار النضال من اجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية .
هل يستيقظ العرب الأحياء قبل ان يسود صنّاع الموت ؟