"فردانية" الإنتفاضة الثالثة وفرادتها
د. عصام نعمان
للإنتفاضة الفلسطينية الثالثة فرادة لافتة. فرادتها في انها من إبداع الإنسان الفرد لا الجماعة. الفرد الفلسطيني هو المخطط والمنفّذ والوسيلة. إنه متَّحَدُ الغاية والوسيلة معاً على نحوٍ غير مسبوق. لا دور للجماعة قبل العمل الفدائي الذي يقوم به الفرد الفلسطيني ولا خلاله. دور الجماعة ، من قياداتٍ وتنظيمـات وبيئة شعبية ، يأتي بعد العملية الفدائية لا قبلها. دورها يتجلّى في الإعتراف والإحتضان والإشادة ، وقد تتطور الإشادة الى تظاهرات شعبية مؤيدة ومحفّزة .
القيادات الفلسطينية كما الإسرائيلية تقرّ بهذه الحقيقة . قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تبنّت ، في البدء ، عملية غسان وعدّي ابو الجمل كونهما ينتميان اليها . ثم تراجعت واكتفت بمباركة العملية البطولية . فعلت ذلك لأنها ادركت ان عمليتهما الإستشهادية كانت بقرار فردي منهما. هذا لا يعني ان لا إسهام لها في ما قاما به . فهما نتاج تربية ايديولوجية يسارية وسلوكية قومية راديكالية لطالما تميّزت بها ثقافة الجبهة واداء قادتها الكبار الراحلين جورج حبش ووديع حداد وابو علي مصطفى.
القيادة الإسرائيلية اقرّت ، هي الاخرى ، بفردانية العملية الإستشهادية . رئيس "الشاباك" (الامن العام ) يورام كوهين صارح اعضاء لجنة الشؤون الخارجية والامن في الكنيست : "إن منفذي عملية الكنيس تحركا من دون اي خلفية امنية سابقة ولم ينسقا ما قاما به مع اي منظمة او فصيل فلسطيني قبل الهجوم".
لياسر عرفات قول مأثور:" انتمي الى شعب اكبر من قياداته". ليس ادل على صحة هذه المقولة من الاحداث التي تجري مذّ صعّدت حكومة نتنياهو ومستوطنوها اعتداءاتهم على الحرم القدسي ووسعوا رقعة مستعمراتهم في القدس الشريف. ذلك ان جميع العمليات الفدائية التي جرت ، من طعن ودهس وقتل، انما تمّت بقرار فردي من مناضلين مترعين بحب الوطن وبإرادة الكفاح حتى السديم العظمي. وما كان هؤلاء ليكونوا كذلك ويفعلوا ما فعلوا لولا شعورهم بأن قامات القيادات ، جميع القيادات في الضفة الغربية ، ادنى من قامة شعب الجبارين. ليس هذا حكماً نهائياً على تلك القيادات ، التي يستحق بعضها اسباباً تخفيفية ، بل تفسير لظاهرة فردانية الإنتفاضة الآخذة بالتعاظم . ومهما يكن من امر ، لا يضير القيادات ابداً ان يكون شعبها اكبر منها. املنا ان تكون هذه الظاهرة الفريدة حافزاً لها لتنهض وتعمل وتتسامق لتلامس علو قامة شعبها.
الى ذلك ، تكشف عملية جبل المكبّر الفدائية عن ظاهرة اخرى تتنامى وتقضّ مضاجع قادة العدو . إنها ظاهرة الخوف المتصاعد من ان ترتدي موجة المقاومة المتجددة في الضفة سمةَ الحرب الدينية . مردُّ الخوف معرفةُ العدو ان لجوءه الى استثارة المشاعر الدينية لتصعيد الإعتداءات على المسجد الاقصى ، ومضاعفة إجراءات تهويد القدس الشرقية ، والإصرار على تثبيت "يهودية الدولة"، هي الأسباب المباشرة لإستثارة مشاعر العرب الوطنية والدينية ولجوئهم الى اقصى درجات العنف الفردي في الرد والدفاع عن النفس والارض والتراث.
لعل وزيرة العدل تسيبي لفني هي الاكثر تخوفاً من سيطرة الطابع الديني على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي . سبقت جميع المسؤولين الإسرائيليين الى التنبيه لخطورة هذا التحدي. تخوّفت كثيراً من تحوّل الصراع مع الفلسطينيين الى صراع مع عالم الإسلام برمته . لهذا السبب دعت الى تأجيل عرض مشروع قانون "يهودية الدولة" على الكنيست في محاولةٍ لتنفيس الإحتقان المتزايد لدى فلسطينيي الاراضي المحتلة العام 1948 .
رئيس "الشاباك " يورام كوهين شاطر ليفني مخاوفها من الإمعان في استفزاز مشاعر الفلسطينيين . قال لاعضاء الكنيست إن من أسباب اندفاع الفلسطينيين الى ممارسة العنف قيام يهود بقتل وحرق الفتى المقدسي محمد ابو خضير ما شكّل دافعاً اساسياً لإندلاع المواجهة الكبرى في القدس الشرقية في الاشهر الاخيرة ، بل هناك ظاهرة تتمثل في افراد يسعون الى تنفيذ عمليات عدائية في اعقاب الاحداث في الحرم" (القدسي) . اضاف ان "البعد الديني الذي يرتديه الصراع خطير جداً وقابل للإشتعال لأنه ينعكس على الفلسطينيين وعلى جعْل خيار المقاومة الذي يتبناه الشعب الفلسطيني عصيّاً على الإحتواء" .
عملية جبل المكبّر زادت الازمة السياسية في "اسرائيل" تعقيداً . كانت الخلافات تتمحور حول قضيتي الميزانية ومشروع قانون "يهودية الدولة" ، لكن العملية دفعت العامل الامني الى واجهة الصراع السياسي الداخلي . فالقلق على الامن الشخصي بات الهمّ الطاغي للقيادات كما للجمهور. غير ان ردة فعل نتنياهو كانت هروباً الى الامام . فقد امر بحشد المزيد من رجال الشرطة في القدس ، ولمحّ الى تسهيل معاملات الترخيص للإسرائيليين اليهود بحمل السلاح ، ناهيك عن "اجازة" بناء المزيد من المساكن الإستيطانية في القدس .
الى اين من هنا ؟
لا شك في ان عملية جبل المكبّر هزت "اسرائيل" ، وشحنت الشعب الفلسطيني وقواه الحية بمعنويات عالية وطاقة متجددة للنضال والمقاومة والتضحية، واطلقت حملات تضامن واسعة في شتى انحاء عالم العرب . لكن ذلك كله ، على اهميته ، لا يكفي لان خطورة التحدي الإسرائيلي وقوى الهيمنة العالمية التي تدعمه بلا هوادة تتطلب استجابة اعلى واقوى واشمل .
لعل المطلوب تعاون الجميع ، مواطنين ومسؤولين ، قيادات وقواعد ، فلسطينيين وعرباً في الوطن السليب خصوصاً وفي عالم العرب والإسلام عموماً من اجل تأجيج الإعتراض والمعارضة ، والرفض والإنتفاضة ، والكفاح والمقاومة ضد الكيان الصهيوني ، ولا سيما في الاراضي المحتلة العام 1948، وفي ارجاء العالم قاطبة . كل ذلك من اجل اعادة قضية فلسطين الى صدارة اهتمامات العرب والمسلمين ما يؤدي ، بدوره ، الى تفعيل القدرات وتوظيفها في المقاومة ، وحرب التحرير لاحقاً . هكذا يبرهـن الفلسطينيون الاحياء ، كما قوى المقاومة العربية ، على ان بمقدورنا مواجهة اعداء الامة على جبهتين : جبهة الإرهاب التكفيري الذي جرى اطلاقه لإلهاء العرب والمسلمين عن فلسطين ، وجبهة العدو الصهيوني الطامع بأرض العرب ومواردهم وثرواتهم .
التحدي كبير وخطير ويستدعي ان تكون الإستجابة والمواجهة بمستوى التحدي ، بلا هوادة ولا إبطاء .
مع�q���� �مواثيق الدولية التي من شأنها دعم سيادتها ومكانتها وفعاليتها، ولاسيما اتفاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ، وبالتالي مراجعتها لملاحقة ومحاكمة قادة "اسرائيل" السياسيين والعسكريين مقترفي جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وإنتهاك حقوق شعب فلسطين المحتلة ارضه وطرده من دياره ، ونقل افراد وجماعات من شعب آخر للإستيطان في بلاده وانتزاع ممتلكاته.
رابعتها ، وضع وتنفيذ استراتيجية متكاملة للمقاومة والتحرير تنهض بها مختلف تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية لمواجهة الإحتلال الإسرائيلي عربياً واقليمياً ودولياً على جميع المستويات وبمختلف انواع الاسلحة المشروعة .
خامستها ، إلغاء المعاهدات المعقودة بين بعض الدول العربية و"اسرائيل" وقطع العلاقات السياسية والإقتصادية معها ، وإعادة فرض نظام المقاطعة الشاملة عليها .
هكذا يتضح ان العرب يواجهون ، بلا مبالغة ، تحدي الإختيار بين نهجين : القعود والركود ليموتوا بأيدي بعضهم بعضاً تناحراً واقتتالاً وبأيدي "اسرائيل" وحلفائها نحراً وقتلاً ، او النهوض لمواجهة العدو الصهيوني وحلفائه بتصميمٍ واقتدار وبكل الوسائل المتاحة للبقاء على قيد الحياة بحرية وكرامة وآمان .
هل يجوز التردد في الإختيار ؟