إقتتال الفلسطينيين بدلاً من قتل الإسرائيليين؟
د. عصام نعمان
تواجه "اسرائيل" المعضلة الأمنية الأعظم في تاريخ احتلالها فلسطين. إنها إستشراء العنف ضدها في عمقها : في القدس والاراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948. ازدادت المعضلة تعقيداً بإنقسام المؤسسة السياسية الصهيونية الحاكمة على نفسها حيال قضايا وتحديات عدة ليس أقلها كيفية مواجهة المقاومة الفلسطينية المتصاعدة.
غير ان الخلاف حول معالجة المعضلة لا يعطّل البتة تصميم تلاوين الطيف الإسرائيلي جميعاً على مواجهة الوجود الفلسطيني بدرجة قصوى من العنف تصل الى حدود المقاطعة ، والعزل ، والإقتتال ، والقتل ، والتدمير ، والإقتلاع.
المقاطعة تتمثل في منع الفلسطينيين من قيادة الحافلات العامة ، والفصل بين الاوتوبيسات التي تنقل يهوداً وتلك التي تنقل فلسطينيين ، ناهيك عن مقاطعة المنتوجات الفلسطينية المنشأ. كما تتمثل في حظر جزئي على تشغيل العرب في المؤسسات الإسرائيلية ما يعطل اليد العاملة العربية في قطاع البناء.
العزل يتمثّل في التدابير العقابية القاسية التي تتخذها الشرطة والجيش الإسرائيليين بوضع الحواجز الإسمنتية على مداخل الاحياء العربية ، وقطع الطرق التي تربط بين الاحياء العربية والاحياء الإسرائيلية في القدس ، ناهيك عن وضع الآف الحواجز الثابتة والمتنقلة في مختلف الشوارع والطرق داخل المدن والبلدات وفيما بينها على امتداد الضفة الغربية من شمالها الى جنوبها.
الإقتتال يتمثّل في اعتماد قاعدة "فرّق تسد" الإستعمارية وذلك بإستغلال النزاعات الأثنية والدينية بغية الإيقاع بين الاقليات وتحريضها على بعضها بعضاً. فقد عمدت أجهزة الإعلام الصهيونية الى ترويج اخبار مسمومة عن ان الشجار الذي وقع في قرية ابو سنان المختلطة كان بسبب اهانة شاب درزي لفتاة سنّية ، او انه كان رداً درزياً على مقتل الضابط الدرزي جدعان اسعد في هجوم الدهس الذي جرى في القدس ، او انه كان رداً سنيّاً على مقتل خير الدين حمدان على يد شرطي درزي من حرس الحدود في قرية كفركنا ، ناهيك عن استغلال نواحي التمييز في المعاملة كإخضاع الدروز والبدو وبعض المنتمين الى مذاهب مسيحية الى الخدمة في الجيش والشرطة. اساليب التمييز والتفريق والتحريض هذه تسبّبت بوقوع بعض حوادث الإقتتال داخل المجتمع الفلسطيني في الاراضي المحتلة العام 1948، قالت عنها صحيفة "هآرتس"(18/11/2014) إنها عزّزت دعوى أجهزة الامن بأن ما جرى ويجري هو مواجهة بين "عرب يعتدون على عرب".
القتل يتمثّل في تعمّد رجال الشرطة قتل الفلسطينيين المشاركين في اشتباكات امنية او عمليات مقاومة ، وتجنّب القبض عليهم احياء الامر الذي يلامس حـدّ الإبادة . فوق ذلك ، صادق وزير الشرطة اسحق اهروموفيتش على "تسهيلات" لليهود في حمل السلاح من شأنها ان تسمح لغالبية جمهورهم بهذا "الإمتياز"، كما السماح لعناصر الامن والحراسة بالإحتفاظ بالسلاح لدى انتهاء ساعات الدوام، والعودة به الى المنزل. اضافةً الى ذلك ، جرى تشكيل جسم امني جديد في مدينة القدس تحت مسمى "الحرس المدني" بدعوى مساعدة الشرطة. هذه التدابير ستؤدي لا محالة الى تصعيد وتيرة قتل الفلسطينيين ، مقاومين ومدنيين.
التدمير يتمثّل في قيام الشرطة الإسرائيلية بهدم منازل منفذي العمليات الفدائية، وهو عقاب جماعي يؤذي افراد عائلاتهم الذين لا علاقة لهم غالباً بالعمل المشكو منه . هذا التدبير الإنتقامي الفاجر اثار تحفظاً حتى بين اليهود انفسهم ليس لكونه مخالفاً لأبسط قواعد العدالة وحقوق الإنسان بل لكونه يؤدي الى "إلهاب المشاعر في وقت يقتضي الامتناع عنه على الاقل في الفترة الحالية" (...) "ولأن اسرائيل لا تهدم منازل مخربين يهود" ("يديعوت احرنوت" 18/11/2014).
الإقتلاع يتمثّل في سحب حق الإقامة في "اسرائيل" من اي شخص تتم ادانته بإرتكاب عملية "إرهابية" . رئيسة كتلة "البيت اليهودي" في الكنيست اييلت شاكيد قدمت مشروع قانون في هذا الصدد ، ولا يبدو انه سيلقى معارضة وازنة. ان خطورة هذا التدبير التعسفي المنافي لحقوق الإنسان تكمن في ان سكان القدس من العرب الفلسطينيين ليسوا ، بموجب "القوانين " الإسرائيلية ، مواطنين كغيرهم من حَمَلة الهوية الفلسطينية في الضفة الغربية بل مجرد مقيمين يحملون بطاقات اقامة "تمنحها" السلطات الإسرائيلية وتستطيع سحبها متى تريد ، ولا سيما بعد إقرار قانون سحب الإقامة .
هكذا يتضح ان الفلسطينيين يواجهون حملة ترهيب وعزل وتجويع وتقتيل وإقتلاع وتهجير اسرائيلية متكاملة ، وان "اسرائيل" تستغل بلا هوادة واقع انقسام العرب وتشرذمهم وتناحرهم وضعفهم المتفاقم من اجل تصفية ما تبقّى من قضية فلسطين ، بل تصفية الوجود الفلسطيني نفسه بتصميم ومنهجية متدرّجة وهادفة.
امام هذا المخطط الإسرائيلي الكارثي ، لا يستطيع الفلسطينيون ، كما العرب، البقاء احراراً آمنين بممارسة المزيد من الشيء نفسه ، اي بمتابعة المناهج والسياسات والمواقف الراهنة التي ادّت الى ما هم فيه وعليه من فُرقة وتناحر وضعف وتخلّف وركود مميت. يقتضي النهوض الى مواجهة التحديات الماثلة والقاتلة بإستراتيجية متكاملة ، لعل اهم قواعدها خمس:
اولاها ، المسارعة الى تحقيق المصالحة الوطنية والوحدة الفلسطينية بلا إبطاء وترجمتها بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على نحوٍ تصبح معه جسم الشعب الفلسطيني وعقله وسواعده الناهضة بموجبات المقاومة والتحرير والبناء والتنمية.
ثانيتها ، شن حملة فلسطينية وعربية في المحافل الدولية والشعبية لأثبات واقع احتلال اسرائيل للضفة الغربية ، وان جهود دولة فلسطين ونضالات الشعب الفلسطيني هدفها تحرير البلاد من الإحتلال بما يتوافق مع ميثاق الامم المتحدة وقرارات مجلس الامن ذات الصلة.
ثالثتها ، تسريع انضمام دولة فلسطين الى المعاهدات والمواثيق الدولية التي من شأنها دعم سيادتها ومكانتها وفعاليتها، ولاسيما اتفاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ، وبالتالي مراجعتها لملاحقة ومحاكمة قادة "اسرائيل" السياسيين والعسكريين مقترفي جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وإنتهاك حقوق شعب فلسطين المحتلة ارضه وطرده من دياره ، ونقل افراد وجماعات من شعب آخر للإستيطان في بلاده وانتزاع ممتلكاته.
رابعتها ، وضع وتنفيذ استراتيجية متكاملة للمقاومة والتحرير تنهض بها مختلف تنظيمات المقاومة الفلسطينية والعربية لمواجهة الإحتلال الإسرائيلي عربياً واقليمياً ودولياً على جميع المستويات وبمختلف انواع الاسلحة المشروعة .
خامستها ، إلغاء المعاهدات المعقودة بين بعض الدول العربية و"اسرائيل" وقطع العلاقات السياسية والإقتصادية معها ، وإعادة فرض نظام المقاطعة الشاملة عليها .
هكذا يتضح ان العرب يواجهون ، بلا مبالغة ، تحدي الإختيار بين نهجين : القعود والركود ليموتوا بأيدي بعضهم بعضاً تناحراً واقتتالاً وبأيدي "اسرائيل" وحلفائها نحراً وقتلاً ، او النهوض لمواجهة العدو الصهيوني وحلفائه بتصميمٍ واقتدار وبكل الوسائل المتاحة للبقاء على قيد الحياة بحرية وكرامة وآمان .
هل يجوز التردد في الإختيار ؟